ملامح أوليّة لسيرة الشاعر الذاتيّة:
الشاعر موسى حوامدة (وُلِد في 25 فبراير 1959 السموع، الخليل – ) شاعر فلسطيني- أردني الاقامة، يُعَد شخصيّة بارزة في انطولوجيا الشعر الفلسطيني وشعر الحب العربي. الشاعر موسى عضوًا في رابطة الكتاب الأردنيين واتحاد الكتاب العرب، وهو أيضًا عضو في نقابة الصحفيين الأردنيين. شارك في عدّة مهرجانات عربية وأوروبيّة، وتُرجِمَت قصائده إلى عدّة لغات،
درس الإعداديّة في مدرسة السموع، ثم انتقل للخليل لدراسة المرحلة الثانويّة، اُعتُقِل أكثر من مرة عندما كان طالباً هناك من قبل جيش الاحتلال. التحق بالجامعة الأردنيّة للدراسة في كليّة الآداب, وسجن في الأردن لأسباب سياسيّة، وتخرج من قسم اللغة العربيّة عام 1982.
صدر للشاعر: خمسة عشر ديوان شعر نذكر منها:
1- المجموعة الشعريّة”شغب”1988 –
2- المجموعة الثانية (تزدادين سماءً وبساتين), وهي عبارة عن قصائد حب 1988 –
3- وديوان “شجري أعلى” 1999- وهذا الديوان أثار حفيظة المتطرفين الإسلاميين. صودر الديوان عام 2000 وواجه تحديات قانونيّة حتى عام 2002 عندما تمت تبرئته من تهمة تحقير الأديان ومخالفة قانون المطبوعات, إلا أن النائب العام استأنف الحكم ضده. وفي عام 2001 حُكِم عليه من قبل محكمة جنايات عمان بالسجن ثلاثة أشهر بتهمة مخالفة قانون المطبوعات والنشر بمصادرة كتابه “شجري أعلى” في الأردن.
4- المجموعة الشعريّة الخامسة “من جهة البحر” الصادرة عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت. 2004.
5- والمجموعة السادسة “سلالتي الريح عنواني المطر”, عن دار الشروق عام 2006: والذي حاز على جائزتين فرنسيتين في نفس العام.
6- ومجموعته “موتى يَجرُّون السماء” من إصدارات دار أرابيسك بالقاهرة. 2011:
7- وديوان «جسد البحر رداء للقصيدة» ، من إصدارات دار نون الإمارات. 2015
8- المجموعة الرابعة وهي بعنوان “أسفار موسى العهد الأخير” عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر2002 . مع حذف بعض القصائد من قبل إدارة المطبوعات. وهي المجموعة التي اخترنا منها القصيدة موضوع النشر: ” ولدت من بطن غيمة”.
وإلى جانب إنجازاته الشعريّة، تعمق “موسى” في الأدب الساخر بثلاثة كتب نثرية، منها “حكايات السموع” (2000)، الصادرة عن دار الشروق في رام الله وعمّان. وترجمت منه ليلى الطائي ملتون لمجلة بانيبال الإنكليزية في العدد الأخير الذي كُرِّس للأدب الفلسطيني الحديث.
كُرِّم “موسى” لمساهماته الأدبيّة من خلال العديد من الجوائز. حصل على جائزة رابطة الكتاب الأردنيين لغير الأعضاء في عام 1982 عن قصيدته “الفراغات”. والجدير بالذكر أنه حصل في عام 2006 على جائزة “لا بلوم” (الريشة) (بالفرنسية: La Plume) المرموقة، وهي الجائزة الكبرى التي تقدمها مؤسسة “أورياني” الفرنسية (بالفرنسية: Fondation Oriani)، كما نال جائزة مهرجان تيرانوفا الفرنسي، وجائزة المهاجر الأسترالية للشعر عام 2011.
كتب عن شعره العديد من الكتاب والنقاد العرب, مثل –بلند الحيدري – محمد علي شمس الدين – بشرى البستاني –د. محمد القواسمة.. وآخرون كثر. كما قام المخرج ناصر عمر بإخراج فيلم عن تجربته الشعرية ضمن برنامج هؤلاء الآخرون”.
لمعرفة المزيد عن سيرة الشاعر “موسى حوامدة” يراجع موقع “ويكيبيديا”.
البنية الدلاليّة والفكريّة للقصيدة:
أن تكون فلسطينيّاً, أي أنت رمز للعذاب والشقاء والتشرد والضياع والقهر والحرمان… نعم هكذا تحول الفلسطيني إلى رمز لكل ذلك, لقد جسدته رمزاً عذابات قرن من الزمن, دون أن يلقى إلا القليل من يتعاطف معه ليعيد له حقه الذي سلب منه أمام أعين العالم بشكل عام, وأعين ذوي القربى بشكل خاص.
وإذا كان المواطن الفلسطيني يحس بعذابه ويعرف أسباب مأساته, فالشاعر أو الأديب الفلسطيني, هو الأكثر قدرةً على فهم واقعه ومأساته وبالتالي ترجمة أحاسيسه ومعاناته والتعبير عنها ونقلها عبر الأجيال…
وهذا هو واقع الشاعر “موسى الحوامدة” الذي كرس معظم جهده وإبداعه من أجل قضية شعبه الفلسطيني بكل معاناته, من جوع وتشرد وآلام ويتم وضياع وغربة وفقد…
ففي قصيدته ” ولدت من بطن غيمة” تتجلى لنا عبقريّة الشاعر مع عنوان القصيدة, فالغيمة العابرة ليس لها وطن تحط فيه وتستقر, إنها غيمة عابرة تتقاذفها الرياح ولا تعرف أين تحط رحالها, وهي هنا شبيهة بالفلسطيني الذي تقاذفته الرزايا بعد أن سلبت منه أرضه من قبل المستعمر الغاصب دون وجه حق, وبعد أن زور زناة التاريخ تحت وهم أساطير قالوا فيها بأن هذه الأرض لشذاذ الأفاق وليس لأهلها الشرعيين الحق فيها, وصدقهم مجرمو التاريخ أيضاً الذين عملوا من فلسطين حصان طروادة لتحقيق طموحاتهم ومصالحهم في هذه الأرض وما يحيط بها. فكانت النتيجة كل هذه العذابات التي عاشها ويعشها الفلسطيني اليوم.
يقول الشاعر “موسى”: واصفاً كل تلك المعاناة التي يعيشها شعبه, هذا الشعب الذي أصبح فيه الفرد, وهو واحد منه شبيهاً بقطرات ماء تحملها غيمة سابحة في هذا الفضاء دون أن يعرف أين سيهبط, وعند هبوطه سيهبط خفيفاً لا يحمل معه إلا جسده وذكريات طريّة في ذاكرته مسجل فيها كل معاناته وقهره وتشرده.. يهبط دون مأوى, شريداً تصفعه شدّة الرياح, وتحرقه حرارة الشمس… وتتجاذبه بلاد الله التي لا يعرف كيف يستقر فيها.. لذلك هو يحاول في مضمار مأساة هذا التشرد أن يعيد توازنه, وأن يجد مستقراً له كي لا يضيع أو يهرب كطير لا يعرف إلى أين… إنه يحاول في غربته أن يتسامى ويتماسك رغم كل معاناته كي لا يسقط ويتلاشى .. فجذوة البقاء والتمسك بالحياة من أجل العودة إلى الوطن منحته كل هذا القدرة على التحمل والبقاء. يقول الشاعر ” موسى حوامدة”:
ولدتُ من بطن غيمة
هبطتُ إلى الأرض خفيفًا…
كأني لا أُبصرْ
الريحُ تَصْفَعني
الشمسُ تنزعني
الوديانُ تجذبني
تثاقلتُ كي لا أطير
تَساميتُ كي لا أذوب
تماسكتُ كي لا أسقط،
ثم يتابع الشاعر رسم مأساته المتضمنة بالضرورة مأساة شعب فلسطين, بأن الكل قد تخلوا عنه, فمن ينتمي إليهم في العروبة من ذوي القربى أنكروا هذا الانتماء, ومن رفع نظره إليه عالياً وطلب العون تخلى عنه أيضا, وتركه فريسة لرب دين آخر غير ربه لا يعرف إلا القسوة والجريمة بحقه وحق كل فلسطيني أو مختلف.. لقد أصبح كل من شرّد إليهم أعداءً له.. فلم يعد يعرف طريق العودة إلى وطنه فلسطين بعد أن سدّت أمامه كل الطرق, وكيف لا تسدّ هذه الطرق وعدوه من ربط العهدين القديم بالجديد وآمن بأن المسيح لن يعود إلا إذا كانت فلسطين للصهاينة.
يقول الشاعر “موسى حوامدة”
الرعدُ أَنْكر أبوتي
السماواتُ تخلت عني
الأرضُ عدوَّتي
كيف أعود …
كيف أعود إلى رحم غيمتي؟!
عدوتي- أسفار موسى العهد الأخير.
البنية الفنيّة والجماليّة للقصيدة:
هناك مناهج تمثل مدارس وتيارات أدبيّة ونقديّة متعددة، لكل منها منهجية الخاص في تحليل النصوص، والمقصود بالتحليل هنا هو القراءة العميقة للنصّ، أي الإحاطة بالمقاصد والمعاني والدلالات التي يسعى النصّ تبليغها للمتلقي الذي تتفاوت قدراته القرائيّة بين القراءة السطحيّة والقراءة العميقة.
والنص الذي بين أيدينا هو لشاعر متمكن من حرفته, والشعر عنده لم يأت ترفاً أو تسليةً, وإنما الشعر بعمومه عنده وسيلة فكريّة وفنيّة تحمل أبعاداً اجتماعيّة وسياسيّة وفكريّة, يريد الشاعر عبرها أن يقول ما يشغل ذهنه وعقله من قضايا الوطن والأمّة والإنسان. وتأتي قصيدته ” ولدت من بطن غيمة: أحد اشتغالاته الشعريّة التي وصف فيها حال الفلسطيني المشرّد والمقهور كما بينا عند حديثنا عن البنية الدلاليّة والفكريّة للقصيدة. فدعونا نتعرف هنا على البنية الفنيّة والجماليّة لهذه القصيدة.
نقول: بالرغم من أن القصيدة تقع في مضمار “الشعر المنثور” وهو الشعر الذي لم يجرأ إلا القليل من النقاد على نقده لما له من سمات تختلف في حقيقتها عن سمات الشعر العمودي أو شعر التفعيلة. كغياب الموسيقى الخارجيّة في النص من وزن وقافية, وكذلك تحررّها إلى حد كبير من الأنماط التفكيريّة المؤدلجة, إضافة إلى سيادة السكون نهايات الجمل والسطور والمقاطع في القصيدة, وبالتالي إمكانية قراءة مفردات القصيدة الداخليّة دون الالتزام بالحركات، أي تعميم السكون على كامل القصيدة. والأهم في هذا السمات هو الغموض الذي يتجلى في القصيدة وصعوبة الفهم والتفسير لدلالاتها. وبالتالي ما يجعلها مفتوحة الدلالات أمام المتلقي, لذلك وصفت بإسفنجيّة البناء والتركيب.
نقول بالرغم مما تحمله قصيدة النثر من هذ السمات الاشكاليّة أمام الناقد, إلا أن الشاعر “موسى” بعبقريته وتجربته العميقة استطاع تذليل الكثير من هذه الاشكاليات من خلال الصياغة الفنية لهذه القصيد وما حملته من قيم جماليّة وفكريّة.
أولا: الصورة في بنية القصيدة:
تشكل الصورة عنصرًا بارزًا ومهمًّا في النص الأدبي, إذ يلجأ الأديب عادة إلى تغليف أفكاره وتثبيتها في نفس القارئ بالصور، كما أنها توقظ العواطف, في لغتها التصويرية. وكلما كان الأدب تعبيريًّا كانت الصور هي التي تتشكل في أذهان القارئ.
وفي الأدب عمومًا لابد من الصور التي تأتي مباشرة أو صور جزئيّة كالصور البلاغيّة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز، أو تأتي بحالة تأليفيّة تلتحم أجزاؤها لتشكل رقعة كاملة مترابطة. وفي العادة يراوح الأديب بين الصور الكلية والجزئية، وكثيرًا ما يميل الأدب الحديث إلى الصور الكليّة التأليفيّة,
والدارس للنص الأدبي يلتفت إلى تكوين الصور في النص وترابطها وانسجامها مع الفكرة، ويلحظ كذلك سمات وخصائص الصورة هل هي (ماديّة حسيّة) أم (تخيليّة) بعيدة عن الواقع ولكنها تعبر بالضرورة بهذا الشكل أو ذاك عن قضايا الواقع. كما ينتبه الدارس للنص إلى (حركة الصورة وعمقها وتلوينها)، ويأتي التلوين عادة بأصباغ الانفعال النفسي عند الأديب الذي يحاول نقلها إلى القارئ.
وما يميز قصيدة ” ولدت من رحم غيمة”
إن الشاعر استطاع أن (يجسم) المعاني الخفيّة في قصيدته لتصبح بالصورة باديةً جليةً، ويمكن رؤيتها أو لمسها. حيث يقول:
(ولدتُ من بطن غيمة) وفي (هبطتُ إلى الأرض خفيفًا… كأني لا أُبصرْ). أو في (الريحُ تَصْفَعني … الشمسُ تنزعني … الوديانُ تجذبني…) أو (الرعدُ أَنْكر أبوتي .. السماواتُ تخلت عني.. الأرضُ عدوَّتي..كيف أعود… عدوتي- أسفار موسى العهد الأخير.) .. الخ. من هذه الصور العقليّة التخيليّة التي تنقلك كل صورة منها إلى عالم مأساة الفلسطيني مشخصةً في واقع حالهم الذي لم يعد خفيّاً بالأصل عن أحد… هذا مع تأكيدنا على الحالة الجماليّة في الصورة الخاصة والعامة في بنية القصيدة رغم مأساة دلالاتها, حيث استطاع الشاعر ان يوظف مفردات البلاغة من تمثيل وتشبيه واستعارة, التوظيف المتقن لشاعر مبدع, حقق الإدهاش عند المتلقي رغم مأساة الأغراض الفكريّة والإنسانيّة في بنية النص.
ثانياً: القناع في النص :
إن ما يميز القصيدة النثريّة بشكل خاص, هو اعتمادها على الرمز والاشارة والايحاء وأبنية المجاز. فهي لا تطمح كثيرا على إبراز الوجدانيات والعواطف في بنيتها, بقدر ما تطمح إلى التعبير عن نوع من فهم الواقع نفسه. دون إعلاء لحالات وجدانيّة أو عاطفيّة أو غنائيّة صاخبة. وبذلك عملت الشعريّة في قصيدة النثر على نقل الواقع إلى آفاق تجارب شعريّة جديدة دمجت العالم داخلها ومنحته طاقة جماليّة عبر أبنية المجاز والرمز والإشارة والايحاء والتلميح. فالقناع بشتى صوره المجازيّة والبلاغيّة والإيحائيّة يهدف إلى تعميق المعنى الشعري، وجعله مصدراً للإدهاش والتأثير وتجسيد لجماليات التشكيل الشعري ذاته.
نقول: رغم أن الشاعر أو الأديب يلجأ إلى استخدام القناع في نصه للتغطية على أبعاد سياسيّة أو اجتماعيّة او عاطفيّة في الغالب, إلا أن الشاعر ” موسى حوامده” استخدم في قصيدته القناع هنا بطريقة فنيّة رائعة, فهو استطاع أن ينقل المتلقي عبر كل صور النص الحسيّة منها والمتخيلة, لذاك الفلسطيني الذي ولد من بطن غيمة ليس لها مستقر, وراح يعاني في عالم الواقع الذي لم يرحمه أو ينظر في مأساته.
فبطن الغيمة هنا إشارة إلى حالة التشرد التي حلت به. وهبوطه على الأرض (خفيفاً) هي حالة توحي إلى أنه بعد تشرده لم يحمل معه إلا جسده المتعب وعقله الشقي المثقل بذكريات لن يمحوها الزمن, ورؤية مشوشة لا تعرف الطريق الذي سيوصله إلى مستقر آمن. أما إشارته إلى عصف الريح ..وحرارة الشمس .. وتجاذب الوديان, إلا إيحاءً إلى معاناة الفلسطيني بعد تشرده وضياعه في غابة لم يعد يعرف كيف الخروج منها. وهذا ما تشير وتوحي به بقية الصور في بنية القصيدة, ليصل أخيراً إلى المضمر في مأساته وأسباب تحققها وهي (أسفار موسى العهد الأخير.). التي التحمت بالعهد الجديد وشكلت رمزاً لكل من تصهين وآمن بأن عودة السيد المسيح لن تكون إلا إذا عاد اليهود وخاصة الصهاينة إلى أرض فلسطين التي يجب أن يقلع شعبها الأصيل من جذوره.
ثالثاً: النغم والايقاع في القصيدة:
لقد تمرد الشاعر المعاصر وخاصة شاعر قصيدة النثر على الوزن والقافية, ولجأ إلى التنويع في الصوت والنغم، وأصبح الاهتمام بالإيقاع الداخلي يزداد لكونه أشمل من الوزن والقافيّة ويتعدى في الدلالة. وقد تطور الإيقاع فانتقل من نظام الصوت المتشابه، والبنيات المتماثلة في الوحدات المتقابلة، ومن نظام الوزن الصارم في الشعر إلى إيقاع جديد متحرر متسامح مع نفسه, ومن ثمة صار الصوت يؤدي دورا ًبالغ الأهميّة في التأثير على المتلقي بما يحمل من خصوصيات في التنغيم والنبر والجهر والهمس عند الالقاء من جهة, ثم اعتماد الشاعر الحديث على الصورة بوصفها مطلباً يُفضي إلى موسيقى جديدة تنغمها مشاعره وانفعالاته المرتبطة بالموقف من جهة ثانيّة, وهذا ما أعطى قيمة أكبر للإيقاع النفسي وللنسق الكلامي لا لصورة الوزن العروضي للبيت الشعري.
إن كل هذه المعطيات التي تمثله قصيدة النثر الحديثة نجدها في قصيدة ” ولدتُ من بطن غيمة” للشاعر الكبير المبدع “موسى حوامدة. لقد استطاع عبر كل الصور الحسيّة والتخيليّة التي وظفها في النص الشعري, أن يمنح المتلقي من خلال ترابطها, وعمق دلالاتها وجماليّة لغتها, وترابط الدال والمدلول فيها أن يحقق رتماً موسيقياً داخلياً لنصه كاد أن يعوض ما فقده النص من وزن وقافية. يقول الشاعر: (ولدتُ من بطن غيمة…هبطتُ إلى الأرض خفيفًا… كأني لا أُبصرْ.. الريحُ تَصْفَعني..الشمسُ نزعني..الوديانُ تجذبني…). فبهذه الانسيابيّة في تلاحق الصور بكل جماليتها, يشعر المتلقي بشفافيّة الرتم الموسيقي في هذه الصور وما تحمله من مواقف تهز وتحرك خوالج الروح والجسد معا.
رابعاً: التكرار في القصيدة:
إن ورود التكرار في النص الشعري عند الشاعر يشير إلى محتوى معين يريد إظهاره والتأكيد عليه. أي هو الحاح على فكرة هامة في النص الشعري يريد تأكيدها الشاعر أكثر من عنايته بسواها, وهو بذلك – أي التكرار – ذو دلالة نفسيّة قيّمة، كما يعد التكرار أحد العوامل التي ترتبط بالقدرة على الفهم, فالفهم يكون أسرع في حالة استخدام التكرار وخاصة في القصيدة الحديثة، مثلما التكرار يشكل في القصيدة أحد مفردات الإيقاع بجميع صوره, قد نجده بالقافيّة, أو في تكرا الحرف أو الكلمة أو العبارة أو الصورة، وله دور جمالي في النص مثل كل الأساليب البلاغيّة الأخرى، بشرط أن يأتي التكرار في مكانه داخل بنية النص.
من هنا يأتي التكرار في بنية قصيدة “ولدت من بطن غيمة” للشاعر ” موسى حوامدة” إن كان في الكلمة أو العبارة أو الحرف, بغية تأكيد المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني…
تثاقلتُ كي لا أطير
تَساميتُ كي لا أذوب
تماسكتُ كي لا أسقط،
فهنا جاء تكرار عبارة (كي لا) في سياق الجمل التي تكرر فيها, لإشعار المتلقي بأن الشاعر وما يمثله من حالة إنسانيّة, لم يزل متمسكاً بأرضه ووطنه وقضيته, ولن يذوب أو يسقط أو يطير بعيداً في المجهول.
وعندما تنكر لمأساته الجميع من ذوي القربى ودعاة القانون الإنساني الدولي وكل الديانات, وباعوه تحت ذريعة أوهام وأساطير تاريخيّة. راح يكرر متسائلا: (كيف أعود … كيف أعود إلى رحم غيمتي؟! عدوتي- أسفار موسى العهد الأخير. ).
أما تكرار حرفي النون والياء معا, وكذلك حرفي التاء والياء معاً في العديد من جمل القصيدة (تَصْفَعني… تنزعني… تجذبني… عني..). وكذلك تكرار حرفي التاء والياء معا: (عدوَّتي.. أبوتي.. عدوتي..غيمتي… ). فقد جاء التكرار هنا من أجل تنويع الإيقاع الداخلي، وتوضيح المعنى وتأكيد دلالة قهر الشاعر وظلمه وغربته عن وطنه روحاً وجسداً.
خامساً: اللغة في القصيدة:
لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً, واضحةً, سمحةً, ناصعةً, وفصيحة, ومسبوكة الألفاظ, منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها, كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري.
سادساً: العاطفة في القصيدة:
العاطفة هي الانفعال النفسي المصاحب للنص، وقد يكون الانفعال هادئًا أو متوسطًا أو جامحًا؛ فالغزل يناسبه الهدوء، والحزن كذلك، وبين الأول والثاني اختلاف في اتجاه الهدوء، فالأول هدوءٌ إيجابيٌ متمددٌ فرح، والثاني هدوءٌ منكمشٌ حزين. أما الغضب فهو انفعالٌ جامح.
إن ما يميز العاطفة في القصيدة, أنها مشبعة بالحس الإنساني, والوطني, والمشاعر المحركة لهذه العاطفة, مشاعر حب وحزن وألم وانتماء, وهي عميقة وصادقة وجياشة, استقرت في عقل ورح إنسان سلبت أرضه, وشرد كغيمة في سماء لا يعرف لها حدود أو مستقر.
كاتب وباحث وناقد من سورية:
d.owaid333d@gmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولدتُ من بَطن غيمة. من ديوان (لست موسى يا أبي).
الشاعر موسى حوامدة
ولدتُ من بطن غيمة
هبطتُ إلى الأرض خفيفًا…
كأني لا أُبصرْ
الريحُ تَصْفَعني
الشمسُ تنزعني
الوديانُ تجذبني
تثاقلتُ كي لا أطير
تَساميتُ كي لا أذوب
تماسكتُ كي لا أسقط،
الرعدُ أَنْكر أبوتي
السماواتُ تخلت عني
الأرضُ عدوَّتي
كيف أعود …
كيف أعود إلى رحم غيمتي؟!
عدوتي- أسفار موسى العهد الأخير.