ما خسرته إيران في الحرب وما ربحته

ماجد كيالي

ربما كان أكثر شيء خسرته إيران في حرب الـ12 يوما إزاء إسرائيل هو سرديتها عن ذاتها على الصعيد الإقليمي والدولي وأمام شعبها، حيث كانت قد بنت صورتها طوال العقدين الماضيين باعتبارها دولة قوية لا تقهر، ليس في مواجهة إسرائيل فقط، وإنما حتى في مواجهة الولايات المتحدة التي تعتبرها “الشيطان الأكبر”. هذا إضافة إلى ادعائها بإمكان محو إسرائيل في ظرف أيام وأنها تهيمن على عدة عواصم عربية (بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء مع غزة)، إذ تبين أن كل تلك الادعاءات شعارات سرعان ما فقدت صدقيتها في اختبار التجربة.

ففي تلك الحرب، وفي غضون 12 يوما، خسرت إيران منشآتها النووية الرئيسة، التي ظلت تبنيها طوال عقود ثلاثة وصرفت عليها عشرات مليارات الدولارات، كما خسرت كثيرا من ترسانتها الصاروخية ونخبة من قادتها العسكريين وعلمائها النوويين، إضافة إلى أن إسرائيل استطاعت تقويض جزء كبير من البنية التحتية لترسانتها العسكرية، وعمرانها.

اللافت أن إيران خسرت كل ذلك، ماديا ومعنويا، بعد أن خسرت صورتها، ومكانتها، كقائد لمحور “المقاومة والممانعة”، إذ كانت قد نأت بنفسها عن حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة، طوال عشرين شهرا، تاركة “حماس” لمصيرها، فاقم من ذلك أنها لم تفعل شيئا لتقديم أي دعم لـ”حزب الله”، درة التاج في ميليشياتها في المنطقة، وأنها انكفأت تماما من سوريا، كأنها لم تكن، بعد انهيار النظام السوري.

هذا الوضع يثير السؤال عن صواب استراتيجية النأي بالنفس التي اتبعها قادة إيران، إذ أتاح ذلك لإسرائيل اقتناص حلفائها واحدا واحدا، بحيث بات الطريق ممهدا أمامها لاستهداف إيران مباشرة، وهو ما حصل. هذا السؤال، يأتي من قلب البنية المفهومية للخطاب الإيراني السائد، الذي قام على المبالغة وتوعد إسرائيل، والتبشير بإمكان هزيمتها، في حين أن سياسة النأي تتناقض مع ذلك.
وهذا السؤال لا يفترض أن تدخّل إيران، منذ البداية، لدعم حلفائها، كان سيغيّر شيئا كثيرا مما حصل، لكنه كان سيصعّب على إسرائيل ما فعلته في غزة وفي لبنان، وربما أخّر انهيار النظام السوري، وصعّب من عملية استهداف إيران ذاتها. علما أن تداعيات التدخل لن تكون سهلة. بالعكس، إذ إن مثل ذلك كان ربما جرّ المنطقة كلها إلى حرب أكثر وحشية وتدميرا ضد لبنان وفلسطين وإيران، في ظل الدعم الأميركي اللامحدود لإسرائيل، التي تملك، كقوة مضافة، السلاح النووي، أو ما تسميه سلاح “يوم القيامة”.
على صعيد خارجي، فإن خسارات إيران تشمل انكشاف هشاشة فكرة قيام عالم متعدد الأقطاب، وقرب انهيار الولايات المتحدة الأميركية، وهي صنو فكرة انهيار إسرائيل، إذ تبين أن مجموعة دول “بريكس”، التي انضمت إليها إيران مؤخرا، أي الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا، غير فاعلة ولا تستطيع شيئا إزاء ما تريده أو تفعله الولايات المتحدة، لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا تكنولوجياً ولا عسكريا.
وفيما يخص إسرائيل، فإن هذه الدولة الاستعمارية والعنصرية والمصطنعة، عززت مكانتها على الصعيد الإقليمي بعد انهيار كل محور “المقاومة والممانعة” بطريقة مريعة ومهينة ومأساوية، وبعد أن تبين خواء شعاراته وادعاءاته. إذ باتت إسرائيل في بيئة آمنة في محيطها لعشرات السنين.

أيضا، فإن إسرائيل، في ظل حكومة اليمين القومي والديني الأيديولوجي المتطرف، بقيادة بنيامين نتنياهو تقدم نفسها إزاء شعبها، وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي، بأنها نجحت في تحقيق الأهداف الآتية: أولا، تعزيز هيمنتها على الفلسطينيين من النهر إلى البحر. ثانيا، تحقيق بيئة آمنة في المنطقة لعقود، بعد هزيمة أطراف محور “المقاومة والممانعة”. ثالثا، التموضع في المنطقة كقوة إقليمية وحيدة. رابعا، تقويض قدرة إيران على إنتاج طاقة نووية. خامسا، إعادة إيران إلى حجمها خلف حدودها. سادسا، تقديم نفسها كدولة قوية، ورادعة، وباعتبارها بمثابة وضع دولي في المنطقة، أي دولة تحظى بضمانة الغرب لوجودها وتطورها وتفوقها النوعي على دول المنطقة.
ما يفترض لفت الانتباه إليه هنا، هو أن معايير النصر والهزيمة في صراعات معقدة ومتداخلة ليست ثابتة ولا يقينية ولا ناجزة مئة في المئة، لكن ما يفترض ملاحظته أن إسرائيل دولة صغيرة بالقياس لإيران، إذ لا يمكن المقارنة بين الاثنتين لا من حيث المساحة ولا عدد السكان ولا الموارد الطبيعية، وكلها لصالح إيران بشكل مهول، لكن إسرائيل تتفوق على إيران في طريقة استثمارها لمواردها البشرية، وفي المجالين التكنولوجي والاقتصادي، ومثلا فإن اقتصادها أقوى من الاقتصاد الإيراني، وبينما دخل الفرد في إيران يناهز 4400 دولار، فهو في إسرائيل يناهز 55 ألف دولار في العام، وفي حين أن القوة التصديرية لإيران تبلغ حوالي 71 مليار دولار أغلبها من النفط والغاز، فهي بالنسبة لإسرائيل 77 مليار دولار، أغلبها سلع تكنولوجية وصناعية.

الآن، واضح أن إيران خسرت كثيرا، في مسائل أساسية، كما أوضحنا، لكن في المقابل فإن إسرائيل تبينت عن عطب كبير، أيضا، سيما في مواجهتها لدولة تمتلك جيشا قويا، وإمكانية للقتال والاستمرار، ما سيفتح أذهان الإسرائيليين على أسئلة تتعلق بالوجود والمستقبل، وما سيضع مصير هذه الدولة على طاولة الفحص، بين خياري التحول إلى دول عادية، مع حدود ودستور، والتعايش مع محيطها، أو البقاء كدولة إسبرطية، تعيش بين أسوار، وفي عداء مع محيطها، ومع الزمان والمكان.
على ذلك، فربما يفعل هذا الذي حققه نتنياهو من “نجاحات” لإسرائيل، فعله بشكل عكسي، بحيث يكون هو بذاته أول من يدفع ثمنه في أية انتخابات قادمة، تبعا لكل ما حصل، وتبعا لتلك الحرب المهولة التي لم تعرف إسرائيل في تاريخها مثيلا لها في امتدادها الزمني، وشموليتها وتعدد أطرافها.
في المقابل، فإن إيران التي خسرت كثيرا، وبشكل نوعي، من مكانتها وادعاءاتها، قد ربحت ذاتها بوقف الحرب عند هذا الحد، وبحؤولها دون امتدادها إلى داخلها. مع ذلك، لا يوجد شيء يقيني تماما في شأن وقف الحرب عند هذا الحد، لكن هذه محصلة أولية لـ12 يوما.

عن المجلة