لطالما حاولت جماعة “الإخوان المسلمين” أن تقدم نفسها بوصفها حركة دعوية إصلاحية، تدافع عن الإسلام وتحمل همّ الأمة، متذرعة بشعارات الدين، ورايات الجهاد، وخطابات التحرر من الاستعمار والهيمنة الغربية. غير أن الوقائع التاريخية، والوثائق الاستخباراتية، والمآلات السياسية، تكشف عن وجه آخر لهذه الجماعة: وجه تأسّس في دهاليز الإمبراطورية البريطانية، وتغذّى من مصالحها، وتطوّر في كنفها، حتى صار أداة طيعة لضرب المشروع العربي الوطني، ولتشويه صورة الإسلام السياسي التحرري.
تعود جذور هذا التنظيم إلى مصر مطلع القرن العشرين، في ظل الاحتلال البريطاني الذي فرض قبضته على البلاد منذ العام 1882. في ذلك السياق الاستعماري، ظهر الشاب حسن البنا، الذي لم يكن مجرد مُعلّم بسيط في الإسماعيلية، بل رجلًا مدعومًا من قوى غامضة منذ البداية. وتشير مصادر تاريخية، بعضها اعتمد على وثائق بريطانية رفعت عنها السرية، إلى أن تأسيس “جماعة الإخوان المسلمين” عام 1928 لم يكن وليد حراك شعبي عفوي، بل نتيجة تلاقي مصالح حسن البنا مع أجهزة الاستخبارات البريطانية، وعلى رأسها مكتب المخابرات البريطانية في القاهرة، الذي كان يتابع بحذر نشاطات الحركات اليسارية والقومية والعمالية التي بدأت تتنامى في الشارع المصري.
إن فهم الهدف الحقيقي من نشأة الجماعة يقتضي التوقف عند ما كان يشكله المدّ القومي واليساري في مصر والعالم العربي من تهديد مباشر للمصالح البريطانية آنذاك. فالشيوعيون، والناصريون لاحقًا، كانوا أعداء مباشرين للإمبريالية. أما جماعة الإخوان، فقد بدت – في عين البريطانيين – خيارًا مثاليًا لضرب هذه التيارات من الداخل باسم الإسلام، وتشتيت الصفوف، وبث الفتنة الفكرية، والتشكيك في مشروع النهضة الوطني. بل إن العديد من المحللين يعتبرون أن البنا، بتكوينه الفكري المحافظ، كان رجلًا مناسبًا لخدمة هذا المخطط، خصوصًا بعدما تبيّن أن أولى تمويلات الجماعة جاءت من جهات مشبوهة مرتبطة بمكاتب الإنجليز في السويس والقاهرة.
وفي مرحلة لاحقة، لعبت المخابرات البريطانية دورًا بارزًا في ترويج الجماعة، وغضت الطرف عن نشاطها، بل ووفرت لها هامشًا للتحرك، في حين كانت تسحق التظاهرات العمالية والطلابية. ولم يكن غريبًا أن تتقاطع مصالح الإخوان مع أهداف الاحتلال البريطاني في محطات كثيرة، أبرزها دعم الجماعة لحملة قمع الأحزاب اليسارية والماركسية، أو محاولة اغتيال جمال عبد الناصر بعد توقيعه اتفاقية الجلاء. يومها، كانت المخابرات البريطانية ترى في عبد الناصر عدوًا شرسًا للاستعمار، فجاءت محاولة الاغتيال بتنسيق غير مباشر يخدم بقاء النفوذ البريطاني في المنطقة.
ولم تكن العلاقة بين الإخوان والدوائر الاستعمارية البريطانية علاقة ظرفية أو تكتيكية فحسب، بل استمرت لاحقًا عبر القنوات الخلفية، خصوصًا في فترة ما بعد الثورة الإيرانية، حين بدأت بريطانيا والولايات المتحدة باستخدام الإسلام السياسي كجدار صد ضد المد السوفييتي في العالم الإسلامي. ووجدت جماعة الإخوان نفسها، مجددًا، جزءًا من هذا التوظيف الجيوسياسي، حتى تحوّلت إلى أداة مرنة في يد كل من يريد زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، باسم الدين والشريعة.
لقد لعبت الجماعة دور الحصان الطروادي الذي أدخل الفوضى إلى عواصم العرب، وتسللت إلى مفاصل المجتمع عبر الخطاب الوعظي، لكنها لم تتورع يومًا عن التحالف مع الشيطان من أجل السلطة. ففي سوريا، تحالفت مع قوى معادية للدولة في الثمانينيات، وفي الجزائر، كانت جزءًا من الغليان الذي دفع البلاد إلى عشرية سوداء دموية، وفي ليبيا، كانت رأس الحربة في تخريب البلاد بعد 2011. وكلها أحداث تظهر أن الجماعة لم تكن في يوم من الأيام مشروعًا إسلاميًا حقيقيًا، بل أداة استعمارية لتمزيق المجتمعات وتفجيرها من الداخل.
والأدهى من ذلك، أن هذا الدور لا يزال قائمًا حتى اليوم، وإن بوجوه جديدة. فبعدما نُكِّلت الجماعة في مصر وسُحقت شعبيتها، أعادت تموضعها في الدوحة ولندن وإسطنبول، حيث الحماية البريطانية والتركية والتمويل القطري. ومن تلك العواصم، تواصل تنظيم الحملات الدعائية، وتجنيد الشباب، وضرب استقرار المجتمعات العربية، تحت لافتات جديدة مثل “الربيع العربي”، “حقوق الإنسان”، أو “النضال ضد الدكتاتوريات”. لكن الحقيقة تبقى واضحة: الإخوان صنيعة الاستعمار، وسيفه المسموم في جسد الأمة.
إن ما يجب أن يعيه الرأي العام العربي هو أن معركة الوعي لا تقل أهمية عن معركة السلاح، وأن تفكيك الخطاب المضلِّل للإخوان وفضح جذورهم الحقيقية كأداة بريطانية، ليس عملاً أكاديميًا باردًا، بل ضرورة استراتيجية لتحصين الأمة من خطر الاختراق الممنهج الذي يمزج الدين بالمخابرات، والمقدس بالمُدنس، والعقيدة بالمؤامرة. ولا خلاص من هذه الورطة إلا بقطع الحبل السُّري بين الدين والتوظيف السياسي، بين الإسلام الحقيقي والإسلام المصنع في مكاتب الاستعمار.
إن التاريخ لا يُمحى، والوثائق لا تُكذّب. والإخوان، مهما بدّلوا أقنعتهم، سيبقون في أعين الشعوب ذاكرة سوداء لحقبة من الخيانة، والتواطؤ، والاستثمار في انقسام الأمة.