السياسي – بعد دخول الولايات المتحدة في العدوان المباشر على إيران، ثارت تساؤلات عن سبب عدم قيام حزب الله اللبناني بدخولها دعما لحليفته الكبرى إيران، رغم أنه دخلها من قبل دعما للفصائل الفلسطينية التي تختلف عنه مذهبيا، ودفع فاتورة باهظة ممهورة بدم قادته..
من الواضح أن سياسات الحزب العسكرية خضعت لحسابات دقيقة تتلخص في عدم التدخل المباشر في الوقت الراهن والاكتفاء بدعمها سياسيا واعلاميا..
أما تقدير توقيت التدخل المباشر وحجمه فسيتعلق بقدرة إيران على الصمود، فمتى كانت صامدة وتستطيع الرد وتكبيد العدو الخسائر سيكتفي بردود عسكرية محدودة، ولكنه سيضطر للتدخل بشكل أكبر مهما كانت العواقب حالما وجدها بحاجة ماسة وضرورية لمساندته.
حسابات دقيقة: الداخل اللبناني والقدرات العسكرية
الاعتبارات التي دفعت الحزب لتبني سياسة تجعله كمن يسير في حقل ألغام؛ منها ما يخص قدراته التنظيمية والعسكرية والتي تضررت بشدة جراء مساندته للمقاومة الفلسطينية في غزة في إطار طوفان الأقصى، ما يجعله بحاجة ملحة لالتقاط الأنفاس وإعادة ضبط هياكله التنظيمية، ونقلها من حالتها التنظيمية المعلنة التي كان عليها قبل الطوفان إلى السرية لتجنب تكرار استهداف قياداتها أو اختراقها، مع لملمة قدراته العسكرية تحسبا لأي اجتياح إسرائيلي واسع النطاق لجنوب لبنان، مضافة إليه حسابات تتعلق بالأضرار التي ستتعرض لها الحاضنة الشعبية جراء العودة للقتال بينما الطائرات الإسرائيلية تصل لكل شبر فيها..
وهناك أيضا حسابات مدى قدرته على الصمود وامتصاص الضربات، وتأثيره على نتائج المعركة بشكل يستحق ما سيقدمه فيها من تضحيات، أو بما يضمن له أو لإيران الخروج منتصرة أو على الأقل سالمة من العدوان..
وكانت أهم مخاوف الحزب في العودة المباشرة للحرب دعما هي حالة التململ من قطاع لا يستهان به داخل لبنان، يرى أن الحزب يزج ببلادهم في معارك لا تحقق مصالح لبنان المتعدد الولاءات والمذهبيات والإثنيات، خاصة مع وجود فئات من هذا المجتمع تعاديه لاعتبارات سياسية داخلية رغم اتفاقها معه في ضرورة التصدي للتمدد الإسرائيلي، بينما فئات أخرى قليلة تعتبر إسرائيل أقرب إليها منه.
ولعل إسرائيل تدرك تماما هذه المعضلة، وتستخدمها دائما لكسب المزيد من الضغط على الحزب في لبنان، وآخرها إعلان نتنياهو والعديد من وزرائه بأنهم سيستهدفون مؤسسات الدولة اللبنانية بشكل كامل دون تمييز ما لم يتوقف الحزب عن إطلاق الصواريخ وينسحب إلى شمال نهر الليطاني.
حسابات خارجية: المشهد السوري
ومن تلك الحسابات أن الحزب كان قد تلقى ضربة مؤلمة جراء سقوط نظام الأسد في سوريا؛ الذي كانت تتحالف معه إيران واتخذت من بلاده ممرا رئيسا لإمداد الحزب بالمال والسلاح، ومع ذلك امتص الحزب الضربة وراح يعترف بالأمر الواقع، وأعلن مرارا عدم تدخله في الشأن السوري واحترامه لاختيارات شعبها، بل وإدانته الشديدة للتدخلات الإسرائيلية في المدن السورية الحدودية.
ويأمل الحزب من تلك السياسة طي صفحة الماضي المؤلمة وفتح صفحة جديدة تتيح له أو لإيران الفرصة للاتفاق على أداء نفس الدور الذي كان يقوم به النظام السابق في مسألة خطوط الإمدادات العسكرية، خاصة أن النظام السوري الجديد يقف على ذات الخلفية الفكرية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي.
السمعة البيضاء: العدو الواحد
للحزب تاريخ في صفحات الصراع مع إسرائيل يسعى للحفاظ عليها، فقبل عام 2011؛ كادت شعبية الحزب في الوطن العربي تبلغ عنان السماء، خاصة بعد صموده في حرب عام 2006، وهي التي أظهر فيها اللبنانيون وربما العرب جميعا لأول مرة أنهم قادرون على الوقوف أمام الغطرسة الإسرائيلية دون معين دولي، وليؤكدوا أن لبنان ليس مشاعا بلا صاحب ويستطيع جيش الاحتلال التوغل فيه حتى يصل إلى بيروت في ساعات دون كلفة موجعة، كما حدث في 1979 و1982. ورأينا حينئذ كيف خرجت التظاهرات الداعمة للبنان وحزب الله في معظم عواصم الوطن العربي، وهي المظاهرات التي تجانست فيها وامتزجت كافة التيارات الفكرية العربية من أقصى اليمين إلى اليسار، وكان عمادها التيار الاسلامي، كعادة أي حراك واسع في الوطن العربي.
النقطة السوداء: البندقية نحو الصديق
لم تكن النزعة المذهبية البغيضة قد توسعت حتى حدثت الثورة السورية، ولجوء الأطراف للخيار العسكري، ثم دخول حزب الله على الخط للدفاع عن النظام السوري والامتيازات العسكرية التي تحصل عليها من وجوده، وهي الأحداث التي بقدر ما عانى السوريون من ويلاتها، عانت معها الأمة كلها ردة وتشرذم وانقسام. وتحمل الحزب القسم الأكبر من الخسارة في رجاله وأسلحته وعتاده من جانب، ومن جانب آخر نزيف حاد في شعبيته لدي الغالبية السنية في الوطن العربي، ومثّل الأمر نقطة سوداء في جبينه.
ومع ذلك، فحزب الله كان يبرر تدخله الدامي في سوريا من وجهة نظره، حيث قال إن ما كان يحدث هو مؤامرة أمريكية لتدمير نظام مارق توعدته سابقا بالتدمير كما فعلت مع العراق، وإسقاطه عبر الفوضى الخلاقة كما فعلت في ليبيا واليمن والسودان، وراح يمنع الكارثة بكارثة..
وحدة المقاومة: طوفان الاقصى وما بعده
أدرك قادة الحزب الخسارة التي لحقت بهم جراء المشهد السوري، وعملوا حتى قبل طوفان الأقصى في لمّ شمل المقاومة وتوحيدها، ففي حرب 2014 أو عملية “الجرف الصامد” التي شنها الكيان على غزة، والتي ردت عليها المقاومة الفلسطينية آنذاك بعمليتي “العصف المأكول” و”البنيان المرصوص”، تدخل كطرف مساند للمقاومة الفلسطينية وقدم التضحيات الكبيرة، وخرج كما خرجت المقاومة في غزة برأس مرفوعة كما حدث في 2006، هنا رمم الحزب جزءا لا بأس من زخمه الشعبي، ولكن لا زال ينقصه الكثير حتى يعود لما كانت عليه الشعبية قبل 2011.
كشف حزب الله في هذا الحرب مبكرا عن مشروع ضخم لتجهيزه أنفاقا عسكرية تمتد من جنوب لبنان حتى داخل فلسطين المحتلة، كان يمكن من خلالها تدفق آلاف من مقاتليه حتى عمق الكيان، ما ساهم في تحقيق إنجاز عسكري كبير للمقاومة، واضطرت معه اسرائيل لإنهاء عدوانها على غزة ولبنان، لتعود بعد أربع سنوات أو في عام 2018 بعملية “درع الشمال” من أجل تدمير أنفاق حزب الله، بعدما تمكنت من كشف خرائطها. وهنا أرسى الحزب والمقاومة الفلسطينية قاعدة وحدة الساحات التي وصلت أعلى مراحلها في طوفان الأقصى.
انتهت المعركة بما يشبه النصر لإيران.. ومع ذلك الحرب ستبقى مستمرة..
الكاتب – سيد أمين