فى الأول من يوليو عام ١٩٩٤، خطا الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات أولى خطواته على تراب فلسطين بعد ٢٧ عامًا من الغياب القسرى، وذلك ضمن ترتيبات اتفاق «أوسلو» الذى وقّعته منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل. كانت عودته لحظة فارقة فى تاريخ القضية الفلسطينية، إذ لم تكن مجرد عودة رجل إلى وطنه، بل عودة رمز لقضية، ولبداية مرحلة جديدة طُرحت فيها آمال بناء الدولة الفلسطينية المستقلة عبر مسار تفاوضى وسياسى طويل ومعقّد.
استقبل الفلسطينيون عرفات حينها بحفاوة شعبية بالغة، واحتشدت الجماهير فى غزة وأريحا تعبيرًا عن تطلعاتهم بأن يكون ذلك اليوم بداية لمرحلة التحرر الوطنى، خاصة أن عرفات نفسه أكّد، لدى وصوله، أن الاتفاق الموقّع قد لا يلبى كل الطموحات، لكنه كان «أفضل ما يمكن الحصول عليه» فى ظل المعادلات الدولية والإقليمية القائمة آنذاك.
ومع هذه العودة، بدأت مرحلة بناء السلطة الوطنية الفلسطينية، التى أنيط بها تسيير شؤون الفلسطينيين فى مناطق الحكم الذاتى، وهو مشروع لم يكن يخلو من التحديات، سواء من الداخل الفلسطينى أو من الاحتلال الإسرائيلى، الذى سرعان ما بدأ بتقويض أى أفق حقيقى لإقامة دولة مستقلة.
واليوم، وبعد مرور ٣١ عامًا على تلك اللحظة المفصلية، نجد أن القضية الفلسطينية قد شهدت تحولات عميقة، ويبرز قطاع غزة كمثال صارخ على تعقيد المشهد.
كان من المفترض أن تكون غزة منطلقًا لبناء نموذج فلسطينى حديث ومتماسك، إلا أن الأحداث تسارعت نحو الانقسام بعد انقلاب حركة حماس وسيطرتها على القطاع عام ٢٠٠٧، وما تبع ذلك من قطيعة سياسية وجغرافية بين غزة والضفة الغربية، وتعطّل شبه كامل للمشروع الوطنى الذى أطلقه عرفات.
غزة اليوم تعيش أوضاعًا إنسانية صعبة، وبنى تحتية مدمرة، واقتصادًا منهارًا، وتهديد بالتهجير القصرى وفقر متفشٍ وجوع مميت. ورغم كل ذلك، بقيت غزة ثابتة تدفع ثمنًا باهظًا دفاعًا عن الحقوق الوطنية، وبسبب أخطاء سياسييها ومغامراتهم.
منذ رحيل ياسر عرفات عام ٢٠٠٤، تراجعت مركزية القضية الفلسطينية فى أجندات العالم العربى والدولى، وتوالت مشاريع التطبيع وتراجعت فرص الحل السياسى، مع تعنّت إسرائيلى متزايد، وتوسع فى الاستيطان، وتفكك داخلى فلسطينى.
رغم الاختلافات حول اتفاق أوسلو، تبقى عودة ياسر عرفات إلى فلسطين لحظة سياسية وتاريخية لها رمزية لا يمكن إنكارها. لقد سعى إلى تحويل القضية من منفى إلى كيان سياسى، وبذل جهده فى تأسيس مؤسسات فلسطينية كانت نواة للدولة المنتظرة. تمسكه بالقرار الوطنى المستقل، ورفضه للتنازل عن الثوابت، كلّفه حصارًا طويلًا فى مقر المقاطعة، ووفاته فى ظروف غامضة، لكنها كرّسته كرمز للثبات الوطنى.
بعد مرور ٣١ عامًا على عودة أبوعمار، تقف فلسطين أمام مفترق طرق حاد: ما بين واقع الانقسام والاحتلال، وأمل الخلاص الوطنى. ورغم كل ما آلت إليه الأمور، لا يزال الشعب الفلسطينى يستحضر إرث عرفات السياسى والنضالى، كمرجعية فى التمسك بالثوابت، وكرمز لقضية لم تمت.
نقلا عن المصري اليوم