بقلم: بن معمر الحاج عيسى
في مشهد سينمائي يهزّ الوجدان ويكتب فصلاً جديدًا من الحضور الفلسطيني في المحافل الدولية، اعتلى الفيلم القصير “أنا سعيد لأنك ميت الآن” قمة التتويج في مهرجان كان السينمائي الدولي، حاصدًا السعفة الذهبية لأفضل فيلم قصير في دورته الـ78. ولم يكن هذا الفوز عاديًا، بل كان صرخة فنية من قلب الجرح الفلسطيني، حملها شاب في منتصف الثلاثينات من عمره، اسمه توفيق برهوم، لم يكتف بالإخراج، بل كتب السيناريو، وأنتج العمل، وجسّد فيه بطولةً تتجاوز التمثيل، إلى أن تكون شهادة وجدانية عميقة على ذاكرة تتجدد مع كل مشهد.
بـ13 دقيقة فقط، قدّم برهوم عملاً أقرب إلى الندبة، إلى الانفجار الصامت في داخل الروح، حيث يلتقي شقيقان عائدان إلى جزيرة الطفولة، لا ليصطادا الحنين، بل ليواجهَا أشباحًا كانت مختبئة في الزوايا المنسية من الذاكرة. فيلمٌ يسير فوق حافة الحزن، يتنفس الفقدان، ويمشي بين أسلاك الوجع الفلسطيني الشائكة، دون أن يقع في خطابية مكررة أو استجداء عاطفة، بل بصوت داخلي حاد، ساخر أحيانًا، وموجع على امتداد الحكاية.
“أنا سعيد لأنك ميت الآن”، عنوان صادم، لكنه مفتاح لفهم فني لطبقات الألم التي يحملها الفلسطينيون في حقيبة ذاكرتهم. ليس عنوانًا للشماتة، بل للنجاة من براثن الذكرى. ففي تصريح للمخرج، قال برهوم: “القصة مستوحاة من شاب أعرفه، لم أكتب بهدف محدد، لكن دائمًا ما تخرج من داخلي هذه المواضيع: الذاكرة، النسيان، الخسارة.” إنها كتابة من الداخل، من حجرة مظلمة في القلب، حيث يتقاطع السياسي مع الإنساني، والخاص مع الجماعي، والموت مع الحياة.
ويأتي هذا التتويج ليؤكد ما كانت تقوله السينما الفلسطينية دائمًا، دون حاجة إلى تبرير أو تعاطف: نحن هنا، نروي حكايتنا، بأدواتنا، وبصوتنا الحرّ. فالسعفة الذهبية، التي تُمنح لأكثر الأفلام القصيرة تميزًا من حيث الرؤية الجمالية والجرأة الفنية والعمق الإنساني، ذهبت هذه المرة إلى فلسطين، إلى الحكاية التي قاومت المنفى بالصورة، والصمت بالحوار الداخلي، والاحتلال بسردٍ يفيض عن الجغرافيا.
ولم يكن برهوم ضيفًا جديدًا على “كان”، فقد سبق له المشاركة كممثل في فيلم “صبي من الجنة” للمخرج طارق صالح عام 2022، لكن ظهوره هذه المرة كان مختلفًا: كصوت إبداعي مستقلّ، يحمل همًّا جماعيًّا في عمل شخصي الطابع، كثيف الإحساس، جريء في لغته، حاد في مرآته.
وبينما كانت الأضواء تسلّط على سجاد المهرجان الأحمر، كان فيلم “أنا سعيد لأنك ميت الآن” يضيء عتمة أخرى؛ عتمة النسيان الذي طالما حاصر القضية الفلسطينية. جاء هذا الفيلم ليقول إن الذاكرة قادرة على أن تنتصر، حين ترويها السينما بأمانة، حين تعكس هشاشة الإنسان الفلسطيني لا كضحية، بل ككائن يرى، ويشعر، ويقاوم بطريقته.
هكذا، في 13 دقيقة فقط، نجحت فلسطين في أن تنتزع لحظة نصر من قلب السينما العالمية، لتثبت أن الصورة قد تكون أقوى من الرصاصة، والمشهد أبلغ من البيان، والمخرج الفلسطيني قادر على أن يُوقّع أوجاع أمّته على شريط سينمائي، دون أن يسقط في الكليشيه، أو يُفرّط في فنيته.
السعفة الذهبية ليست مجرد جائزة… إنها اعتراف عالمي بصوتٍ قادم من أرضٍ مُحاصرة، لكنها ولّادة، تُنبت فناً من تحت الأنقاض، وتُصدّر للعالم رسالة جريئة، خافتة في نبرة صوتها، لكنها عميقة كنصل في خاصرة النسيان.