ترعبني حركة فتح

كتب جميل عبدالنبي

قبل سنوات، وفي مناسبات متفرقة دعتني الحاجة للكتابة عن حركة فتح، وفي كل مرّة كنت أكتب فيها عن فتح كنت أردد أنني لست فتحاوياً،،، لم يتغير شيء، لا زلت غير فتحاوي، وأظنني سأبقى كذلك حتى ألقى الله سبحانه وتعالى، وكما قلت سابقاً: ليس لأنني لا أتشرف بفتح، بل العكس، ففتح تشرف من ينتسب إليها، وليست بحاجة لأن يشرفها أحد، المسألة باختصار أنني جرّبت لعقود فكرة الانتساب للفصائل، والانتظام والعمل داخل صفوفها، حتى تيقنت أنني أُكبّل نفسي وعقلي بقيود تسلب مني حريتي، فأنت كمنتم تنظيمي لا يمكنك إلا أن تخضع في النهاية لقراءات التنظيم، وفي هذا- برأيي- عبودية جديدة لست بحاجة لها، وشخصياً لم أشعر بالحرية الحقيقية إلا بعد أن فكَكْت آخر قيد فصائلي من عنقي، ولن أغامر من جديد باختبار أي قيد آخر، حتى لو كان القيد الفتحاوي، الذي بالمناسبة لا أشبهه بغيره، ففتح منذ البداية لم تكن كغيرها، حيث رفضت منذ التأسيس تكبيل نفسها بأيدلوجيا ضيقة لا تتسع للتنوع الفلسطيني، واكتفت بوصف نفسها بأنها حركة تحرر وطني فلسطيني، لا تشترط على منتسبيها سوى كونهم فلسطينيين، فلكل فلسطيني الحق في الانتساب إليها، بغض النظر عن دينه، ومعتقده، وتدينه، لذلك استحقت بالفعل أن تكون أم الجماهير، وقبيلة الشعب، كل الشعب، وليس هناك من ينافسها في هذه الفضيلة.

ميزة أخرى لفتح تُقدمها على غيرها:

إن رفضها لفكرة تقييد نفسها بأيدلوجيا معينة سوى كونها فلسطينية، سمح لها بأن تكون حرّة، فالأيدلوجيا في الغالب لا تكتفي من منتسبيها بأن يعلنوا انتماءهم لها، بل تقدم لهم تصوراً مكتمل الأركان والتفاصيل، وحلولاً لكل القضايا ذات الصلة، نابعة من مقولات الأيدلوجيا الأساسية، ما سيؤدي إلى تضييق مساحة تفكير المنتسبين فيما يمكنهم فعله، حيث لديهم إجابات جاهزة، وقوالب تفكير جاهزة، إن آمنوا بها فلن يستطيعوا رؤية غيرها، حتى لو قال واقع الناس بخلاف ما تقوله حلول الأيدلوجيا.

الأيدلوجيا قيد، و{ شوافات } لا تتيح لك النظر إلا في اتجاه واحد، وإن أنت شاهدت غير ما تقوله، تلقائياً تصبح خارجها، وحتى خصمها!!!

فتح ليست كذلك، فتح التي أعرفها- ليس من خلال بعض منتسبيها- لا ترتدي شوافات، ولا تتبنى قوالب مغلقة، بل تقرأ الواقع، وتحاول أن ترسم سياساتها وفق معطياته، صحيح أنها تتأخر أحياناً، للأسف خوفاً من ترهيب الديماغوجيا المحيطة بها، والتي تعج بها الساحة الفلسطينية، لكنها في النهاية تسبق الجميع في قراءة الواقع، والممكن، وانظروا كيف وصل كل المزايدين عليها إلى ذات ما وصلت إليه قبلهم بعقود، بعد تجارب مريرة ذبحت شعبنا، وكان يمكن توفير الكثير من الدماء، فقط لو سمح الأيدلوجيون لأنفسهم بفحص تحربة فتح دون شوافات الأيدلوجيا وقيودها.

لا تنتهي الكتابة عن فتح، لكن المقام هنا لا يسمح بذلك، لذا سأكتفي بالتأكيد على أن فتح حقيقة هي قبيلة الشعب، وأم الجماهير، والأكثر جهوزية لقراءة الواقع، وفهمه، لذا فغياب فتح لا يمكن إلا أن يكسر ظهر ما تبقى من الشعب الفلسطيني.

إيماني هذا بفتح التي لا أنتمي إليها يملؤني بالقلق، فغيابها سيفتح الطريق أمام كل الشذاذ لملء الفراغ، ومع ذلك فليس هذا ما دعاني لكتابة هذه الكلمات، إنما ما شاهدته مؤخراً من تعليقات بعض منتسبيها على نتائج الانتخابات النقابية في الضفة، والتي أسعدتني بالمناسبة، ولكن ليس إلى حد التخدير، والركون إليها وكأنها تعبر عن كل الواقع الفلسطيني، ومن ثم الاستسلام إلى سبات عميق، سيستغله الآخرون، المتربصون بها.

الانتخابات الأخيرة نخبوية، لا تعبر بدقة عن مواقف البسطاء، الذين تتقن الأيدلوجيا اللعب في ساحتهم، وشعبنا جله من البسطاء، وهؤلاء يجب ألا تهملهم فتح، وألا تتركهم لعبث الديماغوجيات الأيدلوجية، وعلى فتح ألا تخجل من الدفاع عن مواقفها، فهي الأسبق دائماً، وألا تخشى مزايدات المزايدين.

على فتح ألا تركن إلى نتائج انتخابات نخبوية، فتظن أن المسألة ستكون دائماً محسومة لصالحها، فتنام في العسل، ثم تُفاجأ فيما بعد بنتائج غير مرضية حينما يجد الجد.

صحيح أنني غير فتحاوي، لكنني أؤمن بكونها خيار الشعب الفلسطيني، فواقعيتها وعقلانيتها هي ما نحتاجه الآن، خاصة بعد تجربة غزة المريرة، التي أتخمتنا بالشعارات، وبالوهم، حتى جاءت لحظة سقوطنا، وتحطُّمنا.

ترعبني فتح حينما تغيب، فالفراغ سيملؤه بائعو الوهم، ترعبني فتح حينما لا تقدّر حجم مسؤولياتها، فتنشغل عن المهم بغير المهم، ترعبني فتح حينما يرتعد أبناؤها أمام الخطاب الغوغائي الذي يسعى لزجهم دائماً في دائرة الاتهام، المضطر دائماً لأن يكون في موقف الدفاع.

لا تسعفني الكتابة دائماً لكتابة كل ما أريد، لذا سأختم بتمنياتي لفتح لأن تكون دائماً بخير، لنكون نحن أيصاً بخير.