في عالمٍ تهيمن عليه شاشات الصمت، ومجالس العجز، وخرائط اللامبالاة، ينهض الجوع من عمق بطون الأسرى الفلسطينيين في زنازين الاحتلال، لا باعتباره ضعفًا أو عوزًا، بل بوصفه سلاحًا، أداة مقاومة تخلع عن الأمعاء وظائفها البيولوجية، وتمنحها وظيفة أخلاقية وجودية: أن تقاوم. إنها “معركة الأمعاء الخاوية”، حيث يصبح الامتناع عن الطعام شكلاً من أشكال الصراخ، من دون صوت. مقاومة تحفر بألمها سردية أخرى، تُدوَّن على جدران الزنازين، لا في دفاتر المفاوضين ولا على موائد التخاذل الدولي. هي معركة تتجلى فيها الكرامة كأقصى أشكال التحدي، والإنسان كقضية.
في هذه المعركة، لا يحتاج الأسير إلى بندقية ولا إلى قنبلة، يكفيه أن يقرر الامتناع عن اللقمة، عن الماء، عن الدواء، ليحوّل جسده إلى مساحة اشتباك مباشر مع جلاده، يفضح فيها عري المنظومة القضائية الإسرائيلية، ويكشف الوجه الآخر لمنظومة الاحتلال التي تمارس القتل البطيء تحت غطاء قانوني يسمى “الاعتقال الإداري”. هي مقاومة ضد نظام لا يعترف حتى بوجوب التهم، ولا يكلّف نفسه عناء المحاكمة، بل يكتفي باعتقال الإنسان باسم “الاشتباه”، وتكرار تمديد الاعتقال كمن يُعيد حكمًا بلا جرم، بلا نهاية، وبلا دليل.
لقد كانت معركة الأمعاء الخاوية دومًا جزءًا من المشهد الفلسطيني منذ سبعينيات القرن الماضي، لكنها لم تكن أبدًا “خبرًا عابرًا” أو “حدثًا متكررًا”، بل كانت وما زالت نشيدًا صامتًا يفضح النظام العالمي الذي لا يسمع إلا حين تصرخ الدماء. الأسير الفلسطيني حين يشرع في إضرابه، لا يفعل ذلك بحثًا عن ضوء إعلامي، بل عن كرامةٍ تُنزع منه كل لحظة، عن حريةٍ صارت عصفورًا يحوم حول الزنزانة ولا يحطّ. إنه إعلان نفي للعبودية، ورفض للذل، وإعادة تعريف لمعنى “البقاء”. الجسد هنا ليس ضحية، بل سلاح واعٍ ومقصود.
إن مقاومة الأمعاء الخاوية لا تضع فقط الجلاد في موقع الإدانة، بل تفضح أيضًا هشاشة المنظومة الحقوقية الدولية، ذلك الصمت القاتل من المؤسسات الأممية، والمنظمات الإنسانية، والضمائر الحرة. كيف يمكن لعالم يدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان أن يغضّ الطرف عن مئات الأسرى الذين يموتون ببطء لأنهم يُجبرون على القتال بأمعائهم دفاعًا عن أبسط حقوقهم؟ لماذا تغيب العدالة عندما تكون الضحية فلسطينية، والمعتدي إسرائيليًا؟ وهل الكرامة تُقاس بالخرائط أم بالدم النازف من أحشاء مضربة عن الحياة؟
في هذه المعركة، يكون الموت احتمالًا واردًا، لا بل خيارًا أحيانًا، لكنه ليس الهدف. الهدف هو انتزاع حق الأسير في أن يكون إنسانًا، في أن يُحاكم، في أن يُنصف، في أن تُسمع صرخته. ولذلك، فإن كل إضراب عن الطعام ليس مجرد حالة فردية، بل صرخة جماعية من داخل جدران الصمت، تفضح سياسة “التجويع كسلاح”، وتعيد الاعتبار لمركزية الإنسان في معادلة الاحتلال. فحين يصير الخبز مسألة كرامة، ويغدو الماء موضوعًا للمساومة، فإننا أمام نظام إجرامي لا يحتاج إلى وصوفات جديدة، بل إلى مقاومة أعمق من كل البيانات.
لقد أثبتت تجارب الأسرى المضربين أن “الأمعاء الخاوية” أقوى من جدران السجن، وأخطر من رصاص الجنود، وأكثر فتكًا من أقبية التحقيق. من خضر عدنان، الذي خاض معركة الموت بوعي فلسفي مؤلم، إلى ماهر الأخرس، إلى هشام أبو هواش، وعشرات الأسماء التي خاضت هذا الشكل من المقاومة النادرة، كُتبت حكايات العزيمة على جدران القهر. ولئن سقط بعضهم شهداء، فقد ظلّ وقعهم المعنويّ أقوى من أي صفقة، وأكثر صمودًا من أي معادلة سياسية.
في النهاية، فإن مقاومة الأمعاء الخاوية ليست سوى أحد أوجه الصراع الفلسطيني الذي يُدار على جبهات متعددة: الأرض، الهوية، اللغة، الكرامة. وهي معركة لا يجوز أن تُترك للأسرى وحدهم، بل تتطلب اصطفافًا أخلاقيًا وإنسانيًا وسياسيًا يليق بهذا النموذج النادر من النضال. لأن كل صمت عن الجوع في الزنزانة، هو مشاركة في الجريمة. وكل تواطؤ بالصمت، هو طعنة في خاصرة من يقاتلون بأجسادهم العارية، ضد آلة عسكرية عنصرية لا تعرف الرحمة.
في سجون الاحتلال، لا تُقاس البطولة بعدد السنوات، بل بعدد الأيام التي يقف فيها الأسير على حافة الموت ليُعلّم العالم دروسًا في الكرامة. فحين تصير الكرامة معركة، والأمعاء بندقية، لا يكون الصمت حيادًا، بل خيانة.