في عرض البحر، حيث تتلاطم الأمواج كأنها تحمل أنين المفقودين في غزة، شقت سفينة حنظلة طريقها في مواجهة أعتى أشكال القهر الإنساني، لم تكن مجرد هيكل خشبي يرفع علماً، بل كانت روحاً تمخر العباب باسم الفلسطينيين الذين يذبحون يومياً تحت حصار خانق وإبادة جماعية ممنهجة.
منذ أشهر، يعيش أكثر من مليوني إنسان في غزة تحت القصف والمجازر والتهجير القسري، تقصف البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وتستهدف المستشفيات، ويحرم الأطفال من الدواء والغذاء والماء، ويترك الجرحى ينزفون حتى الموت.
ما يجري في غزة ليس مجرد حرب، بل مشروع لإفراغ الأرض من أهلها، تجويعاً وقتلاً وحصاراً يقطع شرايين الحياة.
وسط هذا الجحيم، أبحرت حنظلة تحمل الأمل والدواء وصرخات الحرية من كل بقاع الأرض، اجتمع على متنها مناضلون من جنسيات وخلفيات مختلفة، توحدوا تحت راية الحق، وأدركوا أن الصمت أمام الإبادة جريمة، وكانوا يعرفون أن الاحتلال سيواجههم بعنف، لكنهم قرروا أن يكسروا جدار العزلة الذي يحوّل غزة إلى أكبر سجن مفتوح في العالم.
وحين ظهرت الزوارق الحربية الإسرائيلية مدججة بالسلاح، بدا المشهد وكأنه جيش كامل يواجه أسطولاً عسكرياً، لا سفينة صغيرة تحمل مساعدات إنسانية، اعتلى الجنود السفينة بعنف، قيدوا ركابها، جرّوهم أرضاً أمام عدسات العالم، في مشهد يلخص عقلية الاحتلال التي ترى في كل بادرة تضامن خطراً يجب سحقه، لكن الرسالة التي أرادوا إيصالها ارتدت عليهم، إذ خرج المعتقلون من التجربة أكثر صلابة، بينما العالم شاهد جريمة جديدة تُضاف إلى سجلّ الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.
رمزية حنظلة في هذا المشهد لا تقل أهمية عن الفعل ذاته، وحنظلة الذي رسمه ناجي العلي مكبّل اليدين، حافي القدمين، يدير ظهره للعالم الذي خذل فلسطين، بدا اليوم وكأنه يقود السفينة بنفسه، متحدياً الحصار والإبادة، وكما يظل الطفل المرسوم شامخاً رغم القيود، جاءت هذه السفينة لتقول إن الفلسطيني، مهما جاع وحوصر وشُرّد، سيبحث دوماً عن كوة للنور.
الحصار على غزة لم يكن يوماً مجرد عزل جغرافي، بل محاولة لخنق الحياة نفسها، لمحو الوجود الفلسطيني من على وجه الأرض، ومع ذلك، أثبتت غزة أن روحها أقوى من الجدران والبارجات، وسفن الحرية، ومنها سفينة حنظلة، تذكّر العالم بأن غزة ليست وحدها، وأن الحرية لا تمنح، بل تنتزع.
سيبقى اسم حنظلة محفوراً على موج البحر، وشاهداً على أن الفلسطيني حين يقرر العبور نحو الضوء، فإن كل سفينة، مهما كانت صغيرة، تصبح سفينة أمة بأكملها في مواجهة الإبادة.