كرم أبو سالم… حين تُفتح بوابات غزة لا للحياة بل للرحيل الكبير!

بن معمر الحاج عيسى

في غمرة ركام المنازل، وصدى الانفجارات التي لا تهدأ، وفي ظل غياب الأفق وانسداد كل النوافذ، يُعاد تشكيل معالم النكبة أمام أعين العالم، لكن هذه المرة ليس عبر مجازر سريعة ولا تطهير عرقي مباشر، بل عبر سياسة بطيئة ومدروسة، قوامها الجوع والحصار والترويع، وأداتها معابرٌ تحوّلت من رموز للصمود إلى بوابات هروب جماعي.

كشفت صحيفة “واللا” الإسرائيلية، بلسان الاحتلال ذاته، عن الشروع في توسعة معبر كرم أبو سالم جنوب قطاع غزة، ليتحوّل إلى معبر ذي مهام متعددة: تفتيش المساعدات، استقبال الوفود، تنسيق خروج المرضى… لكن أخطر ما في القائمة، هو “الاستعداد لعملية هجرة جماعية طوعية للفلسطينيين إلى مختلف دول العالم”. الطوعية هنا ليست خيارًا بقدر ما هي خدعة لغوية، لأن الطرد الحقيقي لا يكون بالرصاص دائمًا، بل بالخنق البطيء، وبخلق ظروف تجعل الموت داخل الوطن أسوأ من حياة المنفى.

من يقرأ هذا المخطط يدرك أننا لسنا أمام معبر يتم تطويره لأغراض إنسانية، بل أمام هندسة سكانية متكاملة: تقليص عدد السكان، خلق مسارات “آمنة” للهروب، وتحويل الكارثة إلى طريق مفتوح للخلاص الفردي. ما يجري هو استكمال لما بدأ في 1948، لكن بأساليب أكثر تهذيبًا أمام الكاميرات: لا شاحنات تهجير ولا عمليات إجلاء جماعي تحت التهديد، بل طائرات لمرضى، وصفوف انتظار طويلة أمام السفر “الطوعي”، وصمت عالمي يُبرر كل شيء بأنه خيار شخصي للسكان.

في العمق، هذه ليست خطة إسرائيلية فحسب، بل مشروع أميركي–إسرائيلي تتبدّى معالمه منذ منح ترامب “الضوء الأخضر” لاحتلال غزة بشكل كامل، تحت مسميات محاربة الإرهاب وإعادة الإعمار. فالسيطرة على المعابر، خصوصًا كرم أبو سالم، ليست خطوة عابرة، بل مفتاح لمستقبل غزة السياسي والديمغرافي. لا وقف إطلاق نار حقيقي، لا خطة لإعادة إعمار جدية، لا إرادة دولية لحماية المدنيين… كل ما هنالك هو انتظار اللحظة التي يصبح فيها التهجير هو الخلاص الوحيد.

وهنا تبرز المفارقة المؤلمة: من يدّعون اليوم أنهم “حرّروا غزة”، كانوا أول من أغلق المعابر، واحتكر قرار الحرب والسلم، ثم انسحبوا من المشهد بعدما أحرقوا الأرض وتركوا الناس عالقين بين الموت في الداخل أو الهروب خارجه. من يتحدث عن المقاومة، عليه أن ينظر في عيون أمهات الأطفال الجوعى، وفي نظرات الشباب المذلولين أمام أبواب السفر، وفي الأجساد المحترقة التي لا تجد دواءً ولا سقفًا ولا ماء. من يتغنّى بالثبات، عليه أن يسأل نفسه: أين الثبات حين تتحوّل “بوابة الجنوب” إلى بوابة للهروب الكبير؟

كرم أبو سالم اليوم ليس معبرًا، بل اختبارًا أخلاقيًا لشعب كامل، ولضمير أمة غارقة في التصفيق للدم، أو الصمت المتواطئ. من سيهاجر ليس خائنًا، بل ناجٍ من خيانة كبرى. ومن يزايد على الناجين، فليسأل نفسه: أين كان حين تقطّعت السبل بالجميع؟ وأين كانت “كرامته” حين كانت غزة تُسلخ يومًا بعد يوم، بصمت فصائلي وتواطؤ دولي وخذلان عربي شامل؟

غزة تُذبح للمرة الألف، لكن الذبح هذه المرة بأيدٍ ناعمة، تكتب البيانات، وترتّب المشاهد، وتفتح المعابر لتصدير المأساة بدل حلّها. كرم أبو سالم، رمز الحصار، صار الآن بوابة النكبة الجديدة… وكل من ينظر في الاتجاه الآخر، شريك في جريمة الطرد الحديث.

وحدها الحقيقة يجب أن تُقال: لا أحد يملك الحق أن يطلب من شعب محاصر أن يبقى في جهنم، فقط ليرضي خيالًا سياسيًا مشوهًا. من قرر البقاء فهو شهيد حيّ، ومن قرر الرحيل فهو لاجئ له كل الحق، وكل الألم، وكل اللوم على من دفعه للهرب من وطنه، لا على من اختار النجاة.

هكذا تُنظّم النهايات… لا بضجيج البنادق، بل بأوراق سفر، وجوازات صامتة، وصفوف هاربة من جحيم اسمه: غزة المنسية.