العبور إلى المجزرة: الغباء الاستراتيجي لحماس بين وهم النصر وخيانة الواقع

بن معمر الحاج عيسى

بين الأنقاض والرماد، وبين وجع الجوع وصرخات الأطفال، خرج خليل الحية، رئيس حركة حماس في غزة، مساء 27 يوليو 2025، يلقي خطابًا كأنما كُتب في كوكب آخر. خطاب يحمل كل سمات العمى الاستراتيجي والإنكار السياسي، ويلخص مأساة شعب زُجّ به إلى حرب إبادة جماعية، لا لشيء إلا لأن قيادة الفصيل قررت أن تمضي نحو “المعركة الكبرى” دون خريطة طريق، ولا عمق إقليمي، ولا استعداد لوجستي، ولا حتى أدنى حسّ إنساني.

إن ما قامت به حركة حماس منذ السابع من أكتوبر 2023، لم يكن “معركة تحرير” ولا “هجومًا استراتيجيًا”، بل كان مغامرة غير محسوبة، قفزت فوق الوقائع، وتجاهلت موازين القوى، وتغاضت عن آلام الناس في سبيل مكاسب وهمية لا يمكن لأي عقل سياسي أن يعتبرها “انتصارًا”. والكارثة الأكبر أن الوفد المفاوض الذي أُرسل للتفاوض بعد اندلاع النار، لم يكن يفاوض من موقع قوة، بل من حفرة الحصار والجوع، وفي ظل واقع إنساني مدمّر صنعته قيادة بلا مسؤولية.

لقد افتتح الحية خطابه بتحية “إجلال وتقدير لصمود الشعب الفلسطيني”، وكأن هذه التحية كافية لإطفاء جوع آلاف الأطفال، أو لمداواة جراح من فقدوا بيوتهم وأحبّاءهم. قال الحية إن غزة “سمت وعلت” حين سقط العالم في الخذلان، لكنه لم يشرح لماذا لم تُهيأ غزة أصلًا لهذه المعركة، ولا لماذا لم تُبنَ فيها منظومات دفاع مدني، أو ملاجئ للمدنيين، أو حتى شبكة إغاثية داخلية تحفظ الحد الأدنى من الكرامة. ما حصل باختصار، هو أن المقاومة كانت تبني صواريخ دون أن تبني وطنًا، وتُعدّ للمعركة دون أن تُعدّ لشعبٍ قد يدفع الثمن.

ثم مضى الخطاب في تمجيد فصائل المقاومة و”العمل البطولي الذي أعجز العالم عن الفهم والتصور”، متناسيًا أن العالم لم يعجز عن الفهم، بل فهم كل شيء: فهم أن القيادة التي تدّعي المقاومة هي من زجّت المدنيين في أتون الحرب، وأنها كانت تعلم أن الرد الإسرائيلي سيكون وحشيًا، لكنها لم تمتلك خطة للحماية، ولا بديلاً للكارثة، ولا حتى قدرة على ضبط الإيقاع. أين هي العبقرية الاستراتيجية في فتح مواجهة شاملة مع أحد أقوى جيوش العالم، من دون حليف موثوق، ومن دون خارطة سياسية، ومن دون حتى شريان لوجستي آمن واحد؟ أي عبث أكبر من ذلك؟ وأي عقل يمكنه أن يتعامل مع هذا بوصفه “صمودًا” وليس مقامرة دموية؟

في محور التفاوض، تظهر الكارثة في أوضح صورها. الحية قال إن حماس “خاضت مفاوضات شاقة على مدار 22 شهرًا، بمستوى من المرونة دون المساس بالثوابت”، وأشار إلى “تقدّم كبير وتوافق واضح في ملفات الانسحاب والأسرى والمساعدات”، لكنه عاد ليقول إن “الانسحاب الإسرائيلي كان مفاجئًا ومشبوهًا، ويهدف لحرق شعبنا بقضم المساعدات وتحويلها إلى مصائد موت”. هنا تتجلى المفارقة الفاضحة: إذا كانت المفاوضات قد أحرزت تقدمًا كبيرًا، فلماذا كانت الكارثة؟ وإذا كانت المساعدات مشروطة وتؤدي إلى “الموت البطيء”، فلماذا دخلتم في مفاوضات هدفها إدخال هذه المساعدات؟ وكيف يمكن لمن يعترف بغياب الجدية في الطرف الإسرائيلي، أن يواصل التفاوض معه دون شروط واضحة، أو ضمانات دولية، أو شبكة دعم إنساني كافية؟

الغباء الاستراتيجي هنا لا يقتصر على خوض حرب دون جاهزية، بل يمتد إلى آلية التفاوض نفسها: مفاوضات تبدأ من موقع الضعف، تحت القصف والتجويع، دون ورقة ضغط حقيقية سوى دم الشهداء. وفد مفاوض يدخل إلى الغرف دون رؤية واضحة، يراهن على “ردود إيجابية” من الاحتلال، وكأن هذا الاحتلال لم يذبح آلاف الفلسطينيين خلال أشهر، وكأن الدم الفلسطيني يمكنه أن يُقنع العدو بمنح الممرات الآمنة! أليس هذا غباءً؟ بل خيانة سياسية مكتملة الأركان.

وما يزيد الطين بلة، هو الترويج لخرافة “الإجماع الشعبي”، وادعاء أن الجماهير في غزة تلتفّ حول المقاومة، بينما الواقع يكشف أن الناس يموتون جوعًا، ويُسحقون تحت القصف، ويُهجّرون من رفح إلى المجهول، والقيادة لا تزال ترفض الاعتراف بأنها فقدت البوصلة. الحية ذاته أقرّ بأن الاحتلال يخطط لـ”إقامة منطقة نازحين واسعة في رفح لتهيئة النكبة الجديدة”، لكنه لم يقل لنا لماذا لم يتم الاستعداد لهذه اللحظة مسبقًا؟ لماذا لم تُبذل جهود دبلوماسية حقيقية لمنع المجزرة قبل وقوعها؟ لماذا لم يكن هناك تحرك استباقي على مستوى فتح الحدود، أو بناء حاضنة عربية تحمي غزة من العزل؟

من الخطأ تحميل إسرائيل وحدها مسؤولية ما حدث. نعم، الاحتلال مجرم، ويستخدم التجويع والإبادة كسلاح سياسي. لكن من اتخذ قرار المواجهة وهو يعلم حجم الخسارة دون استعداد، يتحمل المسؤولية أيضًا. من أدار المعركة بعقل الفصيل لا بعقل الدولة، وساوم على الدماء داخل غرف ضيقة، دون استشارة أحد، دون شراكة وطنية، دون مساءلة، عليه أن يقف اليوم أمام الناس ويقول: نعم، أخطأنا.

ما يُسمّى بـ”الخطوات العملية” التي وردت في خطاب الحية – مثل تعليق المفاوضات، والدعوة إلى الزحف البري من الأردن، ومخاطبة علماء الأمة – كلها تأتي بعد فوات الأوان، وبعد أن مات الأطفال في الحضانات، وذُبح المرضى على أبواب المشافي، وجاع الناس حتى صار رغيف الخبز حلمًا. هذه ليست خطوات استراتيجية، بل محاولات يائسة لإنقاذ ماء وجه قيادة فشلت أخلاقيًا وإنسانيًا وعسكريًا.

نعم، الشعب الفلسطيني قاوم، وصمد، وواجه وحده آلة الموت، لكن “المقاومة” لم تكن على قدر هذه التضحيات. تحوّلت من قوة ردع إلى عبء إنساني، ومن رمز للكرامة إلى سلطة تبريرية تُلقي اللوم على الجميع: على الوسطاء، على العرب، على العالم، ولا تجرؤ على قول الحقيقة: لقد فشلنا.

وفي النهاية، لا يمكن لخطاب مهما علا صوته، أن يغطي على كومة القبور، ولا يمكن لصورة قائد يلوّح بإصبعه أن تخفي أنّ غزة تُباد ببطء، لأن قيادتها فضّلت الرهان على وهم النصر، بدلًا من حماية الإنسان.

المطلوب اليوم ليس فقط وقف الحرب، بل وقف هذا العبث باسم المقاومة.
المطلوب ليس فقط رفع الحصار، بل رفع الوصاية الفصائلية عن دماء الناس.
المطلوب أخيرًا: أن تعود غزة إلى شعبها، لا إلى فصيل قرر أن يحكمها ولو من تحت الأنقاض.

وإن لم يتحقق ذلك،
فإن تاريخ الغباء السياسي سيكتب أن حماس لم تهزم إسرائيل، بل ساعدتها…
على تنفيذ مجزرة القرن.