غزة بين فكي الإبادة والاحتلال مجددًا: جريمة القرن تستدعي تدخلاً دوليًا جبريًا قبل فوات الأوان

بن معمر الحاج عيسى

في قلب واحدة من أكثر المآسي الإنسانية قسوة في العصر الحديث، تقف غزة اليوم على حافة كارثة كبرى وجريمة إبادة مكتملة الأركان، حيث يواصل الاحتلال الإسرائيلي تصعيد عدوانه الهمجي ضد أكثر من مليوني إنسان محاصرين منذ ما يزيد عن 18 عامًا، ليدفع بهم نحو سيناريو نكبة جديدة في القرن الحادي والعشرين، هذه المرة على شكل إعادة احتلال بالقوة وفرض إدارة عسكرية، في مشهد يتجاوز حدود الجريمة الفردية إلى مستوى المخطط الاستعماري الممنهج، فالأرقام وحدها تكشف هول الفاجعة، إذ استشهد منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى اليوم أكثر من 61 ألف فلسطيني، وأصيب ما يزيد عن 150 ألف آخرين، بينما يسقط يوميًا العشرات تحت القصف أو جراء التجويع والحصار، حيث سجلت المستشفيات خلال 24 ساعة فقط خمس وفيات جديدة بسبب الجوع وسوء التغذية، بينهم أطفال رضع لا تتجاوز أعمارهم بضعة أشهر، في حين بلغ عدد ضحايا المجاعة حتى الآن 193 شهيدًا بينهم 96 طفلًا، وهي جرائم لا يمكن وصفها إلا بأنها تطهير عرقي بطيء يسير جنبًا إلى جنب مع المجازر المباشرة، وتتعمد قوات الاحتلال استهداف المدنيين المجوعين في طوابير المساعدات، كما حدث مؤخراً حين قُتل 52 وأصيب 352 قرب نقاط توزيع المساعدات الأمريكية-الإسرائيلية، لتتحول المساعدات نفسها إلى كمائن موت، أما في البحر فالمشهد لا يقل وحشية، حيث اعتقلت زوارق الاحتلال عشرة صيادين بينهم ستة أشقاء، في استمرار لسياسة العقوبات الجماعية وتجويع الفلسطينيين عبر تدمير مصادر رزقهم، وعلى الأرض لم يدخل يوم أمس سوى 84 شاحنة إغاثة إلى القطاع، بينما الحاجة الفعلية اليومية لا تقل عن 600 شاحنة لتلبية الحد الأدنى من احتياجات الغذاء والدواء والوقود، ما يكشف زيف مزاعم الاحتلال حول التسهيلات الإنسانية، فالحقيقة أن الاحتلال يدير بعناية سياسة “هندسة الفوضى والتجويع” لتمزيق النسيج الاجتماعي الفلسطيني وتجريد الناس من القدرة على الصمود، وما يجري ليس حربًا عادية بل جريمة ممنهجة ضد الإنسانية تستند إلى دعم أمريكي واضح وتواطؤ دولي فاضح، حيث عجزت الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية عن فرض آليات الحماية أو تطبيق قرارات محكمة العدل الدولية، الأمر الذي يجعل مسؤولية التدخل الفوري أمرًا ملحًا لا يحتمل التأجيل، فالأوضاع في غزة اليوم تشير بوضوح إلى أن القطاع قد تحول إلى منطقة منكوبة غير صالحة للحياة، مع تغييرات ديموغرافية وجغرافية متسارعة تستهدف تفريغه من سكانه وإعادة هندسة تركيبته السكانية بالقوة، وهي وقائع تمثل جوهر مشروع استعماري إحلالي جديد، ومن هنا فإن نداء غزة اليوم إلى العالم ليس مناشدة عاطفية بل صرخة استغاثة سياسية وإنسانية وقانونية، فالمطلوب فورًا أن تتحرك الأمم المتحدة لإعلان قطاع غزة منطقة مجاعة والعمل على فتح ممرات إنسانية دائمة وآمنة تضمن تدفق المساعدات دون عراقيل وتمكين وكالة الأونروا والمنظمات الدولية من أداء مهامها بحرية، كما يتعين على الدول الموقعة على اتفاقيات جنيف واتفاقية منع جريمة الإبادة أن تتحمل مسؤولياتها في وقف العدوان ومنع إعادة فرض الحكم العسكري على غزة وتأمين الحماية الدولية للمدنيين، إضافة إلى ضرورة قيام محكمة الجنايات الدولية بالإسراع في تحقيقاتها وإصدار أوامر قبض بحق مجرمي الحرب الإسرائيليين وشركائهم، إن لحظة الحقيقة قد حانت، ولا مجال بعد اليوم للاكتفاء بالبيانات والمناشدات، بل يجب الدعوة إلى انعقاد استثنائي للجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرار “الاتحاد من أجل السلام” لتشكيل تحالف دولي قادر على التدخل الجبري، بما في ذلك إرسال قوات حفظ سلام دولية وفرض عقوبات شاملة على الاحتلال وتعليق عضويته في الأمم المتحدة وفرض حظر شامل على توريد السلاح إليه، لقد آن الأوان لأن يتحول الصمت الدولي إلى فعل، وأن يتحول الغضب الشعبي إلى ضغط سياسي ملزم، لأن غزة اليوم لا تكتب فصلًا جديدًا في مأساة فلسطين فحسب، بل تكشف أمام العالم أجمع أن الإنسانية برمتها أمام اختبار تاريخي، فإما أن تنتصر للحق والقانون، وإما أن تسقط في هاوية العار والتواطؤ.