في مسرح التاريخ، لا تُمنَح الأحداث إعادة عرض، ولا تعرف العلاقات الدولية رحمة بدولة فرّطت أو بدّدت ما كان في يدها. فالزمن لا يعود إلى الوراء، والسيادة لا تُستعاد بالندم.
لقد قدّرت الولايات المتحدة أن ما نسميه “اللحظة العربية” — أي قدرة العرب على ممارسة تأثير حقيقي في السياسة الدولية — قد شارف على نهايته، وربما طُوي صفحُه نهائياً. هذه اللحظة، التي كانت ذات يوم تحمل في طياتها إمكانية الحضور الفاعل والمبادرة المشتركة، انحسرت تحت ضغط خلافات عربية اتسعت وتشابكت حتى أغلقت عمليًا باب الأمل في أن يكون للجامعة العربية دور مؤثر في تسوية النزاعات أو إعادة التوازن.
لقد فاتتنا لحظة تاريخية نادرة، ولم نحسن قيادتها، وفاتتنا فكرة جامعة لم نخلص في تبنيها. ومع ذلك، ورغم الانكسارات، يظل في دواخلنا يقين خافت — لكنه عنيد — بأن نهضة جديدة قد تلوح، إن وجدنا الإرادة وامتلكنا الفكرة.
اليوم، يتوقع كثيرون تصاعد الانفجارات الاجتماعية في الإقليم العربي، الذي يفتقر إلى بوصلة فكرية، ويعيش خارج اللحظة التي تخلى عنها بملء إرادته. لقد كان خروج الاستعمار يوماً شهادة حية على ما يمكن أن يحققه التنسيق العربي والعمل المشترك، غير أن تلك اللحظة أعقبتها مسيرة انحسار بغيضة، وفتور للفكرة القومية.
في التاريخ العربي، تعاقبت قرون مشرقة، ساهمت خلالها النخب الحاكمة في نهضة البشرية، وتخللتها عقود من التخلف المريع، والفساد الممنهج، والهزائم العسكرية، والاضطرابات السياسية، وانهيار البنى الاجتماعية. وكأن التيار الذي تخيلناه جاريا بلا انقطاع، قد أصابته انقطاعات متتالية، حتى بلغ الوهن والركود.
عقب الحرب العالمية الأولى، وبين رماد الخراب وأطماع المنتصرين، نهض العرب — أفراداً وجماعات ونوادي وصحفاً ومؤتمرات — لهدف واحد لم يسبق لهم أن اتفقوا عليه: إعلان أن الأرض التي يعيشون عليها أو ينشدون العودة إليها، هي أرض عربية، وأنهم عرب، لا عثمانيون، ولا إنجليز، ولا فرنسيون.
لم يكن الطامعون الأوروبيون في حاجة إلى البشر، بل إلى الأرض وثرواتها ومواقعها الجيوسياسية. ولم يمانعوا أن يعلن العرب تمسكهم بهوياتهم الوطنية والقومية، ما دام ذلك لا يتعارض مع بقاء الحماية البريطانية أو الفرنسية.
هكذا ولد جيل جديد، يحمل هوية وطنية أولية، ويحلم بهوية عربية جامعة. جيل غذّته قوى سياسية ومفكرون وقادة رأي في المشرق العربي، وحاول استدراج مصر، حكومة وشعباً، إلى مشروع الوحدة. وقد رأت فيه شعوب عربية أخرى خلاصاً من الطائفية وصراعاتها، وأملًا في استعادة الحلم العربي الذي عمّقته مرارة القهر العثماني والاستعمار الغربي.
لكن هذا التيار بدأ بالتراجع. وجاءت علامات الانحسار صارخة:
1. تكالب دولي وإقليمي غير مسبوق على سيادة الدول العربية، يتم أحياناً في أجواء من التنسيق بين القوى الكبرى.
2. انسحاب أمريكي تدريجي، يعكس قناعة بأن الإقليم العربي لم يعد موقعاً استراتيجياً في خططها، مع إعادة تمركزها في الشرق الأقصى لمواجهة الصين.
3. تقدير أمريكي بانتهاء اللحظة العربية، أي أفول القدرة على التأثير الدولي الفعّال.
4. اتساع الخلافات العربية، إلى حد يغلق الباب أمام أي دور جامع للجامعة العربية.
5. تزايد التدخلات الأجنبية وضغوط خارجية لا تحتملها أوضاع دول عربية فقدت الرابط الفكري الواحد.
6. انتقال مفاتيح السيادة في بعض الدول — كالعراق وسورية ولبنان — إلى قوى غير عربية.
7. توقعات بانفجارات اجتماعية في فضاء عربي بلا بوصلة، بلا فكرة، وبلا لحظة جامعة.
إن ما يؤلم في هذا المشهد ليس فقط أن اللحظة العربية رحلت، بل أن غياب الفكرة العربية جعل التدخلات والضغوط أمراً عادياً، وجعل الإقليم العربي ساحةً مفتوحة لكل طامع.
ومع ذلك، فإن التاريخ يعلمنا أن الأفكار العظيمة لا تموت، حتى لو غابت أجيال عن حملها. يبقى الأمل في أن نعيد إنتاج الفكرة العربية، لا عبر ترديد الشعارات، بل عبر مشروع فكري وسياسي متماسك، يتجاوز حدود الخلافات، ويستعيد ما تبقى من اللحظة… قبل أن تصبح ذكرى بعيدة في كتب التاريخ.