لا تزال مسألة العروبة والقومية العربية تثير جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية والسياسية العربية، بين من يعتبرها هوية حضارية وثقافية جامعة، وبين من يراها مشروعاً سياسياً واجتماعياً قابلاً للتحديث أو التجاوز. وفي هذا السياق، لا بدّ من التأكيد على أن العروبة، في جوهرها، ليست مجرد برنامج سياسي أو أيديولوجيا حزبية، بقدر ما هي هوية ثقافية تاريخية وإنسانية متجذّرة، نمت وتطورت عبر مسار طويل من التفاعل مع الحضارات والمجتمعات الأخرى.
إن العروبة بمفهومها الأصيل هي حركة تحرّر ووعي قومي، تسعى أولاً إلى الاستقلال الوطني وتحرير الأرض والإنسان من كل أشكال الاحتلال والتبعية، سواء أكان ذلك استعماراً مباشراً كما كان الحال مع الاحتلالين العثماني والغربي، أم سيطرة غير مباشرة عبر الهيمنة الاقتصادية والثقافية والسياسية المعاصرة. وقد ارتبطت هذه الهوية، على مدى عقود طويلة، بمطلب الوحدة العربية وإنهاء التفتّت الذي فرضته التدخلات الاستعمارية القديمة والحديثة، والتي لعبت دوراً أساسياً في تقسيم المنطقة وتجزئتها.
لكن هذا المشروع القومي لم يسلم من محاولات التشويه والتقويض التي اتخذت أشكالاً عدة. ومن أبرز هذه المحاور: الهجوم على الهوية العربية واتهامها بالشوفينية والتعصّب العرقي، في محاولات متعمدة لتجريد العروبة من بعدها الإنساني والحضاري. كما سعى البعض إلى الانتقاص من هذه الهوية عبر استخدام مصطلحات تقلّل من شأنها، مثل وصف العرب بـ “العُربان” في دلالة تنطوي على الاحتقار والدونية.
أما المحور الأخطر فتمثّل في محاولات نفي الدور العربي في بناء الحضارة الإسلامية والإنسانية، عبر الإيحاء بأن الفضل يعود بالكامل إلى الحضارات المجاورة غير العربية، مثل الفرس والروم والهنود وغيرهم، في تجاهل متعمد لما قدّمته الأمة العربية من علماء ومفكرين وفلاسفة أسهموا في صياغة الفكر الإنساني عبر العصور.
ولم تقف هذه المحاولات عند حدود التاريخ، بل امتدّت إلى الحاضر عبر تصوير المجتمعات العربية على أنها مجرد فسيفساء من الطوائف والأعراق المتناحرة، لا يجمع بينها جامع. ففي سوريا مثلاً، يُشار إلى وجود عشرات المذاهب والطوائف في محاولة لتفكيك المجتمع، كما يجري التلاعب بالهويات في العراق ولبنان واليمن وليبيا لتبرير التدخلات الخارجية وبقاء الكيان الصهيوني، الذي يُقدَّم للعالم بوصفه “دولة يهودية”، على حساب إنكار عروبة الأرض والإنسان.
وما يزيد المشهد تعقيداً هو موقف بعض المثقفين العرب المتغربين، الذين يكرّسون هذه النظرة التشكيكية عبر الزعم بأن القومية العربية تتنكر لحقوق الأقليات، في تجاهل متعمد لحقيقة أن الهجمة الحالية تستهدف أولاً، وأكثر من غيرهم، العرب أنفسهم، بوصفهم المكوّن الأكبر والأصيل في هذه المنطقة.
السؤال الذي لا يزال يُطرح بإلحاح هو: هل العروبة مجرد هوية ثقافية أم مشروع سياسي متكامل؟ الواقع أن العروبة، كما نعرفها، تجمع بين البعدين معاً: فهي هوية تقوم على اللغة والتاريخ والتراث المشترك، لكنها أيضاً حركة سياسية ظهرت للدفاع عن هذه الهوية عندما تعرّضت للتهديد، منذ سياسة التتريك العثمانية وحتى مشاريع الاستعمار الأوروبي الحديث.
ومن يقرأ تاريخ العرب منذ ما قبل الإسلام يدرك أن العروبة سبقت الأديان والحدود السياسية، فهي انتماء لغوي وثقافي راسخ، كما يؤكد المؤرخ الكبير عبد العزيز الدوري والمفكر المغربي محمد عابد الجابري، الذي تحدث عن ثنائية العروبة والإسلام، وعن دور اللغة العربية في صياغة هذه الهوية الجامعة.
العروبة، بهذا المعنى، ليست حالة جامدة أو متحجرة، بل هي هوية متجددة وحية، تتفاعل مع محيطها وتتأثر به وتؤثر فيه، وتظل قادرة على التطور والإضافة في مواجهة تيارات التفكيك والتمزيق التي تتربص بها من الخارج والداخل على حد سواء. ومن هنا تأتي أهمية دور المفكرين والمثقفين العرب في إعادة صياغة مشروع نهضوي عربي جديد، يقوم على التحرّر السياسي والتنمية المستقلة والوحدة القومية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، باعتبارها شروطاً أساسية لبناء مستقبل عربي مزدهر وآمن.
إن الحل الحقيقي لأزمات الأمة العربية لا يكمن في الانكفاء أو الاستسلام لمشاريع التفتيت، بل في الإيمان بوحدة المصير والعمل على إقامة دولة عربية موحدة قادرة على حماية حقوق جميع مكوّناتها، وصون أمنها واستقرارها، وضمان العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص لكل أبنائها.
فهل تعود العروبة لتكون مشروع نهضة يواجه واقع الانقسام والتخلّف، أم ستظل مجرد ذكرى في كتب التاريخ؟ ذلك هو السؤال الذي ينتظر إجابته من أبناء هذه الأمة.
