طوفان الدم بين الأسطورة والواقع… حين تُستغل تضحيات الشعب لتكريس الهزيمة

بقلم: بن معمر الحاج عيسى

في زمنٍ تختلط فيه الشعارات الرنانة بالدماء المسفوكة، تُحاك أخطر الأكاذيب تحت لافتة “المقاومة”، لتبرير سقوط أكثر من ربع مليون إنسان بين شهيد ومفقود وجريح، وتدمير كامل لقطاع غزة، وتجويع لملايين الأرواح المحاصرة. يصرّ البعض، وعلى رأسهم حركة حماس ومن يساندها، على القول إن هذه التضحيات العظيمة هي ثمن التحرير، وأن كل حركات التحرر الوطني – من فيتنام إلى الجزائر وجنوب أفريقيا – دفعت دمًا أكثر وخرابًا أكبر قبل أن تُجبر العدو على الاعتراف بحقها في الاستقلال. غير أن الحقيقة المُرّة أن المقارنة بين تلك التجارب والحالة الفلسطينية الراهنة ليست إلا وهماً سياسياً يروَّج لستر الفشل، وتخدير الوعي، وإخفاء حقيقة المسار الذي قادنا إلى كارثة غير مسبوقة. فهل كانت حرب “طوفان الأقصى” فعلًا جزءًا من حروب التحرر الوطني بمعناها التاريخي؟ أم أنها، في جوهرها، مغامرة مسلّحة خارج الإطار الوطني، دفعت شعبًا بأكمله إلى حافة الإبادة، بينما المفاوضات الجارية لا تتعلق بإنهاء الاحتلال ولا بإعلان الاستقلال، بل بوقف مؤقت لإطلاق النار، وإعادة تموضع جيش الاحتلال قريبًا من الحدود السابقة، مع ضمان استمرار حكم حماس تحت قبضة الاحتلال الذي سيتحكم في المعابر والغذاء والماء، كما فعل طوال 18 عامًا؟ أية مفاوضات هذه التي تُدار في ظل تجاهل كامل لجذور الصراع، بل وتخلٍّ صريح عن الأهداف التي أعلنتها الحركة نفسها في بداية عمليتها؟ أين هو المشهد المماثل لتلك اللحظات التاريخية حين كان العالم أجمع، شعوبًا وحكومات، يقف إلى جانب حركات التحرر الوطني، كما حدث مع الفيتناميين والجزائريين وجنوب أفريقيا، بل وحتى حين خرج الشعب الأمريكي ضد حرب فيتنام، والشعب الفرنسي ضد احتلال الجزائر، بينما اليوم تقف حماس وحيدة في مواجهة إسرائيل، التي يحظى جيشها وحكومتها المتطرفة بدعم شبه كامل من شعبها، ويؤيدهم في ذلك قطاع واسع من المجتمعات المسيحية الغربية والدول الاستعمارية، في الوقت الذي تواجه فيه الحركة رفضًا متزايدًا حتى من داخل الشارع الفلسطيني الذي يطالب بوقف الحرب وإنهاء وجودها في غزة؟ كيف يمكن لمن لم يقرأ تاريخ حركات التحرر، ولم يستوعب التجربة الفلسطينية ذاتها، ولم يدرك التحولات العميقة في النظام الدولي وموازين الشرعية الدولية، ولم يفهم طبيعة الكيان الصهيوني كبنية استعمارية استيطانية مختلفة عن أنماط الاستعمار التقليدي، أن يقود مشروعًا للتحرير؟ إن المأساة الحقيقية ليست فقط في حجم الدم المراق أو البيوت المهدمة، بل في أن هذه التضحيات لم تُستثمر ضمن استراتيجية وطنية مشتركة، بل أُهدرت في مسار يعزز بقاء الاحتلال ويفتح الباب واسعًا أمام أخطر ما يواجه شعبنا اليوم: التهجير الجماعي من أرضه. هذا الخطر، الذي لم تعرفه شعوب الجزائر أو فيتنام أو جنوب أفريقيا، يتطلب اليوم أرقى أشكال المقاومة، وهي تعزيز صمود الشعب، وحمايته من الترحيل، وتفويت الفرصة على العدو، لا تسهيل مهمته تحت غطاء البطولة الزائفة. في لحظة الحقيقة، لا بد أن نقولها بلا مواربة: الدم الفلسطيني ليس مادة خام لمغامرات سياسية، ولا ذريعة لصناعة سلطة تحت الاحتلال، بل هو أمانة في عنق كل من بقي فيه نبض حرية، وأي انحراف عن هذه البوصلة ليس مقاومة، بل خيانة للمعنى الأسمى للتحرير.