أزمة الدولة العربية بين العجز البنيوي وإرث التاريخ: قراءة في معوقات النهوض

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

منذ قرنٍ أو يزيد، والعالم العربي يرزح تحت وطأة سؤال مؤلم لا يكاد يغيب عن مجالسه الفكرية والسياسية: لماذا لم تنجح الدولة العربية في الالتحاق بركب الدول الحديثة، رغم ما تمتلكه من إرث حضاري عريق، وثروات طبيعية هائلة، وموقع جغرافي بالغ الأهمية؟
إنه سؤال تتداخل فيه طبقات التاريخ مع تعقيدات الحاضر، وتتشابك فيه آثار الغزوات الصليبية والاحتلال العثماني والاستعمار الأوروبي، مع أخطاء البنى السياسية والاجتماعية والثقافية التي تشكّلت في العصر الحديث. فالمسألة لا تقتصر على قصورٍ في الفهم النظري لمفهوم الدولة، ولا على ضعف في آليات بنائها، بل تتجاوز ذلك إلى اختلالات بنيوية تراكمت عبر التاريخ، وجعلت الدولة العربية المعاصرة في كثير من الأحيان نسخة ناقصة من الدولة الحديثة، عاجزة عن ممارسة وظائفها الأساسية بكفاءة وفاعلية.
في هذا السياق، يصبح من الضروري أن نعيد النظر في مفهوم الدولة وأركانها، وفي العوامل التي أعاقت نشأتها وتطورها في العالم العربي، عبر مقاربة شاملة تتناول الجوانب التاريخية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.
ما زلنا حتى اللحظة الراهنة نتساءل بمرارة عن سبب عدم تقدّم الدولة العربية. هذا التساؤل الإشكالي يفرض نفسه كلما نظرنا إلى أمم سبقتنا إلى التقدم والازدهار. فتعثّر بناء الدولة في معظم أنحاء العالم العربي ظاهرة مُعنّدة ممتدة منذ أكثر من قرن، إذ ما زال من الصعب تحقيق التطابق بين مفهوم الدولة بمعناه الحديث وبين واقع الدولة العربية شكلًا ومضمونًا، ليس فقط بسبب السياق التاريخي والسياسي المعقّد، بل أيضًا لأن العرب جرّبوا عبر مسيرتهم السياسية معظم الأيديولوجيات الحديثة – من القومية العربية إلى الاشتراكية – دون أن يحققوا النتائج المرجوّة، رغم نجاح هذه الأيديولوجيات في أماكن أخرى من العالم.

هنا يطلّ السؤال المؤلم: هل المشكلة في عجزنا عن بناء دولة متكاملة الأركان؟ أم في انحراف منهج البناء ذاته؟ وهل فهمنا لمفهوم الدولة يختلف جوهريًا عن فهم الآخرين؟ ولماذا تنجح بعض الدول في إدارة شؤونها بكفاءة، بينما تغرق دول أخرى – ومنها دولنا – في الاضطراب وفقدان السيادة الحقيقية؟
التخلف، الذي أورثه الاستعمار للبلدان العربية، ليس مجرد تأخر زمني، بل هو حالة مركّبة تراكمت عبر قرون من الاحتلال الأجنبي: من الحملات الصليبية (1096 – 1291)، مرورًا بالاحتلال العثماني الذي دام نحو أربعة قرون، وصولًا إلى الاستعمار الأوروبي الفرنسي والبريطاني والإيطالي. هذه العوامل، إضافة إلى البنى السياسية والاجتماعية الموروثة، ساهمت في إعاقة قيام الدولة الحديثة.
الدولة، من الناحية القانونية، تقوم على ثلاثة عناصر: الأرض، والشعب، والحكومة. لكن التعريف القانوني وحده لا يفسّر لماذا تتمكن بعض الدول من تحقيق الاستقرار والقوة والنفوذ، بينما تفشل أخرى في ذلك. فأركان الدولة الحديثة، في جوهرها، أربعة: السلاح، والمال، والتنظيم، والأفكار.
1. السلاح: القوة العسكرية القادرة على حماية الأرض والشعب وتنفيذ القانون. وقد كان امتلاك جيش قوي الشرط الأسبق لقيام الدولة، لكن كثيرًا من الدول العربية اعتمدت على شراء السلاح بدل تصنيعه، ما جعل مشروع الدولة الحديثة هشّ الأساس.
2. المال: لا يمكن بناء جيش حديث أو بيروقراطية فعّالة دون موارد مالية ضخمة. وفي غياب المال، تضطر الدولة لفرض ضرائب مرهقة أو شراء الولاء السياسي بوسائل غير مستدامة.
3. التنظيم: البيروقراطية الحديثة التي تدير شؤون المجتمع بعدالة وكفاءة. وقد وصف ماكس فيبر هذا النموذج بـ”العقلانية القانونية”، لكنه في دولنا العربية يعاني من ضعف وفساد متجذّر.
4. الأفكار: الإطار الثقافي والقيمي الذي يوحّد الأمة. وفي غياب الفكرة الوطنية الجامعة، تسود الانقسامات والعدمية والتطرف.
_ تاريخياً، تنوّعت النظريات المفسّرة لنشوء الدولة، من “النشأة المقدسة” إلى “نظرية القوة”، وصولًا إلى “نظرية العقد الاجتماعي” التي بلورها توماس هوبز وطوّرها جان جاك روسو وإيمانويل كانط. أما الدولة الحديثة، فقد تبلور مفهومها مع صلح ويستفاليا (1648) الذي أرسى مبدأ السيادة القومية وفصلها عن الدين والمصالح العائلية.
لكن في السياق العربي، بقيت معوقات النهوض متجذّرة: غياب التصنيع، هشاشة الاقتصاد الإنتاجي، فساد البيروقراطية، سيطرة النخب الحاكمة على السوق، وإضعاف الطبقة الصناعية المدينية. هذا الواقع جعل الدولة أداةً لضبط المجتمع بدل أن تكون إطارًا لتمكينه.
إنّ أي محاولة لفصل السياسة عن الاقتصاد – كما أثبتت تجارب القرن العشرين – هي وصفة للفشل. فالتقدّم يتطلب تلازمًا جدليًا بين اقتصاد السوق والمدنية، وبين السياسة والحياة الاجتماعية. لكن المدن العربية، رغم بداياتها الصناعية، شهدت ترييفًا للقيم المدنية، ما أضعف ديناميات التطور الحضري والاقتصادي.

_ ختاماً، يمكن القول إنّ مسار بناء الدولة العربية ظلّ حبيس اختلالات بنيوية وتاريخية جعلته عاجزًا عن مواكبة التحولات الكبرى. ولعل الطريق إلى النهوض يمرّ أولًا بإصلاح سياسي شامل، يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويؤسس لدولة مدنية حديثة متكاملة الأركان، قادرة على صياغة مشروع وطني جامع، ينهض بالإنسان العربي إلى موقعه الطبيعي بين أمم العالم.
— المراجع:
_ أركان الدولة الأربعة، د. جمال عبد الجواد، مؤسسة الأهرام للطباعة والنشر، 8 شباط 2018، السنة 142 العدد 47911.

_ حسام ميرو، “المدنية وسؤال تقدم الدولة”، جريدة الخليج، 21 حزيران 2021.

_ مفهوم الدولة – The Concept of State، الموسوعة السياسية.
_ الموسوعة السياسية، 2021. Copyright © Political Encyclope.