لويس ألتوسير: الفيلسوف الحارس للأيديولوجيا والثقافة النقدية :

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

 

في المجتمعات الحديثة القائمة على الاقتصاد الرأسمالي، يصبح فهم الأدب والثقافة مرهونًا بالقدرة على فك طلاسم الأيديولوجيا التي تحكم هذه المجتمعات. ومن بين المفكرين الذين ساهموا في إلقاء الضوء على هذه الظاهرة، يبرز لويس ألتوسير كأحد أكثر الفلاسفة تأثيرًا في القرن العشرين، خاصة فيما يتعلق بالدراسات الأدبية والنقدية. فقد شهدت السبعينات «الثورة النظرية» في الدراسات الأدبية، حيث أصبح استخدام لفظة «نظرية» شائعًا، مستمدًا أساسًا من أعمال ألتوسير، الذي دمج بين الفلسفة الماركسية والتحليل الأدبي، مما مكن النقاد من استكشاف طرق جديدة لفهم الأدب بعيدًا عن الأرثوذكسيات النقدية التقليدية التي سادت في الثلاثينات.
_ أولاً: مشروع ألتوسير الفلسفي :

يمكن تقسيم مشروع ألتوسير إلى أربع مراحل رئيسية:
_ 1. المرحلة الانتقالية: يجمع فيها بين الهيجلية والماركسية، ويستعرض تحوله الفكري من الكاثوليكية إلى الشيوعية، وقد جمعت هذه المرحلة في كتابه «طيف هيجل» (1997).
_ 2. مرحلة الإنتاجية الكبرى: حيث يقدم ألتوسير تحليلات عميقة للأيديولوجيا والتاريخ، وأبرز أعماله هنا «قراءة رأس المال» و«من أجل ماركس»، مؤكدًا على البنية النظرية التي أرسى ماركس أسسها في فهم التاريخ والصراع الطبقي.
_ 3. مرحلة النقد الذاتي: يراجع ألتوسير التشدد النظري لأعماله السابقة، ويعرّف الفلسفة بصفتها صراعًا طبقيًا في مستوى النظرية، من خلال أعمال مثل «مساهمة في النقد الذاتي» و«الفلسفة وفلسفة العلماء العفوية».
_ 4. مرحلة مراجعة الحزب الشيوعي الفرنسي: حيث ينتقد ألتوسير أيديولوجيات الحزب على مستوى النظرية والممارسة، محاولةً تقديم تفسير نقدي لأعمال ماركس في كتابه «أزمة الماركسية».
كما يشير المؤرخ إيريك هوبزباوم إلى أن ألتوسير كان «حارسًا متماسكًا للأيديولوجيا»، يعكس جيلاً جديدًا من الثوار الذين يحتاجون إلى نسخة متجددة من الأيديولوجيا الثورية.
_ ثانياً: ألتوسير والأدب والنقد الثقافي.
لعب ألتوسير دورًا مهمًا في تشكيل النقد الأدبي الحديث، خاصة في الجامعات الأمريكية والبريطانية خلال السبعينات. فقد أتاح استخدام أدواته النظرية للنقاد ربط الأدب بالسياسة والثقافة الاجتماعية، وتجاوز الحواجز التقليدية بين الجمالية والتحليل السياسي. ووفقًا للباحث لوك فيريتر، فإن ألتوسير كان قادرًا على ممارسة النقد الثقافي بالتوازي مع مساهماته الجمالية، ما جعله محورًا أساسيًا لفهم الثقافة المعاصرة.
_ ثالثاً: سيرة حياته وتجربته الشخصية:
ولد ألتوسير في أكتوبر 1918 قرب الجزائر، وترعرع في بيئة محافظة، حيث كان الكاثوليكية جزءًا من حياته المبكرة، وشارك في تأسيس حركة طلابية مسيحية. شهد ألتوسير تجربة الحرب الثانية كجندي وسجين حرب، وقد مكنته هذه التجربة من القراءة المتعمقة في الفلسفة والأدب، ومن ثم العودة إلى دراسته بعد الحرب، متجهًا نحو الفلسفة الماركسية وكتابة أطروحته عن هيجل.
على الرغم من مكانته الفكرية الرفيعة، عانى ألتوسير اضطرابًا ثنائي القطب، مما أدى إلى فترات طويلة من الاكتئاب والعلاج النفسي، وكانت هذه التجربة جزءًا من فهمه لأهمية التحليل النفسي، كما أشار سيغموند فرويد في تحليله للعلاقات بين النفس والسياسة، حين أكد على أن التوترات النفسية تعكس أحيانًا الصراعات المجتمعية.
_ رابعاً: الجدل الشخصي والأثر الفكري.
في نوفمبر 1980، وقع حادث مأساوي أودى بحياة زوجته، ولم يُحاكم ألتوسير بسبب حالته العقلية، إذ اعتبرت المحاكم أنه غير مسؤول عن أفعاله. رغم ذلك، استمر في الكتابة والنشر خلال الأعوام الأخيرة من حياته، ومن أبرز أعماله في هذه المرحلة الحوارات الفلسفية مع فرناندا نافارو في المكسيك عام 1988، والتي تعكس استمرار تأملاته النقدية والفكرية حتى النهاية.
_ خامساً: استمرارية إرث ألتوسير:
يمكن القول إن ألتوسير أسس إطارًا تحليليًا لفهم الأيديولوجيا والثقافة الأدبية، مؤكدًا أن الأدب ليس مجرد مرآة للواقع، بل أداة لفهم الصراع الاجتماعي والسياسي في المجتمع الرأسمالي. كما أن أفكاره ألهمت فلاسفة معاصرين مثل بيير بورديو، الذي ركّز على العلاقات بين الحقل الثقافي والهيمنة الرمزية، وجوليا كريستيفا التي اهتمت بالعلاقات بين اللغة، السلطة والهوية.
في ضوء ذلك، يظل ألتوسير مثالاً على الفيلسوف الذي مزج بين النقد النظري والتحليل الأدبي، وبين التجربة الشخصية والفكرية، ليصبح حارسًا للأيديولوجيا المتماسك، ومرجعًا أساسيًا لكل من يسعى لفهم الديناميكيات الثقافية في المجتمعات المعاصرة.