بين الإفلات من المحاسبة وإعادة التدوير.. من سمح لطلال ناجي بمغادرة دمشق؟

ماهر حسن شاويش

بين الإفلات من العقاب وإعادة التدوير، تُفتح من جديد أسئلة الدم الفلسطيني في سوريا، ومن يملك حق العفو عن دماء فلسطينيي المخيمات، هل هي الإدارة السورية الجديدة التي سمحت بخروجه، أم أنها الفصائل الفلسطينية هي التي تريد أن تغطي على تاريخه وتعيد تدويره؟ من دون شك، مغادرة طلال ناجي لدمشق لم تكن مجرد سفر ولا حدثاً عابراً، بل ربما صفقة محمّلة بملفات الدم والمصالح.
فأي ثمن سيدفعه الفلسطينيون هذه المرة؟

من التحقيقات إلى المغادرة
لم يكن خبر مغادرة طلال ناجي دمشق حدثاً عابراً في المشهد الفلسطيني السوري، فالرجل ليس شخصية عادية يمكنها السفر متى شاءت. هو الأمين العام للجبهة الشعبية – القيادة العامة، و”الرجل الثاني” تاريخياً إلى جانب أحمد جبريل، وأحد أبرز رموز الارتباط العضوي بالنظام السوري البائد لعقود. فما الذي تغيّر حتى يُسمح له بالرحيل؟ ومن أعطاه الضوء الأخضر؟
بعد سقوط نظام الأسد وبروز إدارة سورية جديدة، استُدعي طلال ناجي أكثر من مرة للتحقيق، والأسئلة التي لاحقته لم تكن شكلية: دوره في حصار وتجويع مخيم اليرموك، علاقاته القديمة مع أجهزة النظام، وصلاته المتشعبة من طهران إلى موسكو وأبوظبي.
لكن، وبشكل مفاجئ، سُمح له بالمغادرة. هنا تُطرح أسئلة مفادها: هل يمكن أن يُعتبر ذلك تبرئة بعد كل ما جرى؟! أم أننا أقرب إلى محاولة “التخلص من عبء ثقيل” لم يعد وجوده في دمشق يخدم أحداً؟ أم أننا أمام صفقة تسوية كبرى؟!

من سمح له؟ هذا هو السؤال الأهم، لأن قرار خروج طلال ناجي لا يمكن تصنيفه على أنه إدارياً أو شخصياً، بل هو سياسي بامتياز.
السيناريوهات تشير إلى:
• أن الإدارة السورية الجديدة فضّلت إبعاده لتخفيف الضغط عليها، وتجنّب فتح ملفات تراها مثيرة للجدل في توقيت حساس.
• أن عواصم إقليمية (مصر، الإمارات وربما قطر) قدّمت ضمانات بأنه لن يستخدم خروجه ضد دمشق.
• أن صمتاً دولياً أحاط بماضيه، باعتباره ورقة يمكن الاستفادة منها في ترتيبات المشهد الفلسطيني بعد أحداث سوريا وفي اليوم التالي لغزة.
بهذا المعنى، لم يخرج طلال ناجي وحده، بل خرج بإذنٍ محمّل بحسابات محلية وإقليمية ودولية.

عن الوساطة لمغادرته وسؤال العدالة الانتقالية
بكل ثقل القهر، وبدموع آلاف أهالي المعتقلين من فلسطينيي سوريا، وبصوت آهات جراحهم وتضحيات شهدائهم ودمائهم الزكيّة الطاهرة، وبما تُمليه علينا أمانة الكلمة نقول:
حين تُفتح القنوات الخلفية لحماية “كبار مجرمي الفصائل الفلسطينية”، وتُغلق في المقابل أبواب العدالة في وجوه أمهات الشهداء وعذابات المعتقلين، فإن ما يُسمى “العدالة الانتقالية” لم تعد حاضرة، بل بالكاد مجرد شعارات.. انكشفت عارية أمام الجميع.
إننا أمام نخبة تحترف الصفقات، وتُتقن التواطؤ بين النفوذ والحصانة، في حين تُترك الذاكرة الفلسطينية الغارقة في الدم والدموع، مكدّسة تحت أنقاض مخيم اليرموك، وعالقة في زنازين ومكابس صيدنايا، أو تُرمى في جحيم حفرة مجزرة التضامن… من دون محاسبة، من دون خجل، ومن دون كرامة.
هذه ليست نماذج لعدالة انتقالية، هذا نادي امتيازات! وما يجري محض انتقائية وسط تكتم وتعتيم غير مبرر ولا مفهوم، يُمهّد للانزلاق إلى أتون مخاطر العدالة الانتقامية.

إرث الدم.. فلسطينيّو سوريا
السؤال الأعمق ليس: “كيف غادر؟”، بل: “ماذا خلّف وراءه؟”.
فالاسم مرتبط مباشرة بمأساة فلسطينيي سوريا، وفي مقدمتها حصار مخيم اليرموك (2012–2014) الذي شهد تجويع آلاف المدنيين حتى الموت، نزوح عشرات الآلاف، وموت أطفال وكبار تحت القصف والجوع.
“القيادة العامة” لعبت دور الذراع الفلسطينية للنظام الأسدي في هذه الجريمة، وناجي كان جزءاً من القرار ومسؤوليته. هو لم يعتذر، لم يراجع، بل حافظ على خطاب يبرّر أن ما جرى كان “حماية للمخيمات من الإرهاب”.
خروجه من دمشق من دون مساءلة يكرّس شعوراً عاماً بأن الإفلات من العقاب مستمر، وأن دماء الفلسطينيين لا تجد من يحميها أو يحاسب من فرّط بها.

بين دمشق والفصائل.. دماء الفلسطينيين إلى أين؟
هنا يبرز سؤالان جوهريان لا يمكن القفز عنهما:
1. هل يحق للإدارة السورية الجديدة القفز عن دماء فلسطينيي سوريا؟
السماح لطلال ناجي بالمغادرة من دون مساءلة عن حصار وتجويع وقتل آلاف المدنيين في مخيم اليرموك وغيره، يعني تكريس قاعدة الإفلات من العقاب، ويُعيد إنتاج ذات النهج الذي جعل من حياة الفلسطينيين وقوداً لصراعات الأنظمة. دماء أبناء مخيم اليرموك ليست تفصيلاً إدارياً يمكن تجاوزه بقرار سياسي، بل مسؤولية تاريخية لا تسقط بالتقادم.
2. وهل يحق للفصائل الفلسطينية – وفي مقدمتها فتح وحماس – التغطية على إجرام فصيل وإعادة تدويره؟
حضور طلال ناجي على طاولة الاجتماعات في القاهرة أو غيرها، وصمت تلك الفصائل على عودته إلى المشهد، لا يُقرأ إلا كجزء من صفقة أكبر، حيث تغطي الفصائل على جرائم بعضها، وتفتح الأبواب لرموز الماضي، في خدمة متبادلة هدفها اقتسام النفوذ، حتى لو كان الثمن دماء الشعب ودمار المخيمات.
بهذا المعنى، لا تختلف جميع الفصائل الفلسطينية عن بعضها؛ فالكل يقدّم تنازلات متبادلة لحماية نفسه أو تعزيز موقعه، في حين يدفع الفلسطيني الثمن وحده: في غزة اليوم، وفي مخيمات سوريا بالأمس.

ما وراء المغادرة
اليوم، يُعاد تدوير طلال ناجي كسياسي براغماتي، قادر على التنقّل بين العواصم المتناقضة. ظهوره في القاهرة إلى جانب فصائل أخرى، وفتح قنوات مع مصر وقطر والإمارات، يؤكد أن خروجه من دمشق لم يكن نهاية مساره، بل بداية فصل جديد.
فصل تُكتب سطوره في إطار “الطبخة الإقليمية” الجارية لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، حيث تُستثمر وجوه من الماضي رغم أنها محمّلة بإرث دموي ثقيل.

خروج طلال ناجي من دمشق لا يجيب عن السؤال الجوهري: من يحاسب على مأساة فلسطينيي سوريا؟ وإذا كان قد غادر بإذن من الإدارة الجديدة، فهل غادرت معه المسؤولية؟
الدم الذي سال من مخيمات درعا جنوباً حتى حلب شمالاً، وفي القلب منها مخيم اليرموك، لا يزول بخروج رجل من العاصمة، ولا تُمحى آثاره بجواز سفر أو بطاقة صعود طائرة.
تبقى الحقيقة أن ما جرى لشعب فلسطين في سوريا جريمة سياسية وأخلاقية، وأن العدالة وحدها  لا الصفقات الإقليمية ولا التواطؤ الفصائلي فلسطينياً هي ما يفتح صفحة جديدة بحق.

عن موقع تلفزيون سوريا