يخالجني الشعور منذ مدة بضرورة تناول عنوان هذا المقال بتفاصيله، لما له من ارتباطات تقنية تهمني وامتدادات سياسية تشغل الجميع. وحرصاً مني على الأخذ بتفاصيل كثيرة تطال الموضوع ذاته، فقد قررت من جديد اللجوء إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي للحصول على الإجابة المطلوبة.
وعليه أنقل ما توفر من تلك الإجابة مع تعديلات لغوية بسيطة، لغرض المراجعة لا المساس بالمحتوى. إليكم الإجابة:
يُقال إنّ التكنولوجيا في إسرائيل قادرة على أن ترى ما لا يُرى، وتسمع ما لا يُسمع، وتخترق ما لا يُخترق. يُقال إنّها تعرف حركة النملة في ليل غزة المعتم، وتلتقط إشارة هاتف قديم في ركام بيت مهدّم. يُقال إنّها تُمسك خيوط السماء والأرض عبر أقمار صناعية تتوزع في فضاء المنطقة، وطائرات مسيّرة تجوب دونما توقف، وأنظمة تنصّت تتربّص بكل إشارة وكل موجة.
فإذا كان كل ذلك حقيقياً، أفلا يعني أنّ إسرائيل تعرف تماماً أين يقبع مختطفوها؟
السؤال يبدو أكبر من أن يُطرح على طاولة التحليل العابر، وأعمق من أن يُترك في خانة الشك، لكنّ الوقائع تفرض نفسها: عشرات المختطفين لا يزالون في غزة، لا يُحرَّرون ولا يُعادون، فيما آلة الحرب الإسرائيلية تواصل سحق المدنيين الفلسطينيين وإبادة بيوتهم وطرقاتهم وكنائسهم ومساجدهم وجامعاتهم ومدارسهم ومشافيهم وعياداتهم وكامل مكونات بناهم التحتية. وهنا تتوّلد الشبهة التي ترتبط بسؤال المقال: هل العجز تقني فعلاً، أم أنّ في الأمر قراراً سياسياً مغلّفاً بكذبة العجز؟
المتابع لخطاب الإعلام العبري يلحظ فجوةً غريبة. فتارة يفاخر الإسرائيليون بقدراتهم الاستخباراتية الخارقة، التي تصل إلى «العقل الاصطناعي» المندمج مع القوة النارية، وتارة أخرى يتباكون على جهلهم بمصير المختطفين ومكان وجودهم. هذا التناقض لا يمكن فهمه، إلا إذا سلّمنا بأنّ التكنولوجيا تعرف، لكنّ القرار السياسي يختار ألّا يترجم تلك المعرفة إلى فعل.
منطقياً، إذا كانت إسرائيل تتباهى بقدرتها على اغتيال شخصيات في قلب العواصم البعيدة، وإذا كانت تتعقّب الناشطين عبر تقنيات التعرف على الصوت والحركة والحرارة والهواتف المحمولة والبصمات البشرية والحمض النووي، وإذا كانت تستند إلى أجهزة استخباراتية تمدّها بأدق التفاصيل، فكيف تعجز فجأة عن تحديد أماكن من تصفهم بأنهم رعاياها من الرهائن؟
سياسة الإطالة لا سياسة الإنقاذ هي الحقيقة المرّة التي يخفيها الساسة الإسرائيليون، لذا فإن بقاء المختطفين في غزة هو بمثابة البطاقة السياسية الرابحة بيد الحكومة الإسرائيلية. استمرار وجودهم هناك يمنح حكومة نتنياهو الذريعة لإطالة أمد الحرب، وإقناع الداخل والخارج بأنّ المعركة لم تكتمل. كل يوم يُقال للإسرائيليين إن أبناءهم ما زالوا في الأسر، وكل يوم يُستدعى مزيد من الدعم والتأييد للعمليات العسكرية، على أساس أن الحرب ستنتهي بتحريرهم. لكن ماذا لو حُرّروا؟ عندها سيفقد الخطاب السياسي أهم ركيزة يستند إليها. ستنقلب الطاولة على الحكومة التي ستُسأل: لماذا استمر القتل والتدمير بعد أن انتهت قضية المختطفين؟ لماذا أُبيدت غزة ولم تُستعد «الأمانات» إلا متأخرة؟ إن التكنولوجيا في حال كان الأمر سياسياً، مكبّلة بخطط الحكومة الإسرائيلية، بينما لا تبدو التكنولوجيا عاجزة عن الوصول للرهائن. بل هي تكنولوجيا مدعومة بأكبر موازنات البحث العلمي، ومفتوحة الأبواب أمام التعاون الأمريكي والغربي.
يكفي أن ننظر إلى ما يروّجه الجيش من منظومات الذكاء الاصطناعي، التي «تحوّل المعلومة إلى هدف خلال ثوانٍ»، لندرك أنّ معرفة مواقع المحتجزين ليست مستحيلة. لكن التكنولوجيا، مهما بلغت دقتها، تُدار بعقل سياسي يحدد متى تُستخدم ومتى تُعطّل.
وهنا المعضلة: القرار السياسي يبدو متعمّداً في تجميد بعض القدرات، بل في التظاهر بالقصور، كي يظل ملف المختطفين مشتعلاً ومؤججاً للرأي العام. ففي قلب المجتمع الإسرائيلي، تستخدم الحكومة ملف المختطفين كسلاح في معركتها مع المعارضة. يُصوَّر المشهد على أنّ «الحرب ضرورية» لأنّ مصير المختطفين على المحك. وفي المقابل، تُتَّهم الأصوات المعارضة بأنّها تُضعف الموقف الوطني، إذا طالبت بوقف النار أو الذهاب إلى تسوية، أي أنّ المختطفين تحوّلوا من بشر إلى أوراق ضغط انتخابية وحزبية. قد يقول قائل إنّ هذا ضرب من المبالغة. لكنّ التاريخ الإسرائيلي مليء بالشواهد التي لا حصر لها.
في المقابل، يدفع الفلسطينيون الثمن الأكبر، فبقاء ملف المختطفين مفتوحاً، يعني بقاء القصف والدمار والقتل، تحت ستار البحث عن «المخطوفين». إسرائيل تُعلن أنّها تضرب «كل مكان يُحتمل أن يُخفى فيه أسير»، بينما الواقع يقول إنّ البيوت المدمّرة مليئة بجثث الأطفال والنساء، وأنّ الآلة العسكرية لا تبحث بقدر ما تُعاقب. المأساة هنا مزدوجة: مختطفون لم يُستعادوا بعد، وشعب بأكمله يُذبح بذريعة استعادتهم. ولو أرادت إسرائيل حقاً حلاً سريعاً، لاستثمرت تكنولوجيتها في عملية دقيقة، بدل تحويل غزة إلى مقبرة مفتوحة. الخلاصة: المعرفة موجودة، لكن الإرادة مفقودة.
من كل ما سبق، تتضح الصورة: إسرائيل التي تعرف أن تحدد إحداثيات سيارة في شارع بيروت، وتتعقب هواتف في عمق طهران، وتغتال عبر مسيّرات في السودان وسوريا، لا يُعقل أن تُعجزها أزقة غزة. المسألة ليست تقنية بل سياسية بامتياز. التكنولوجيا تعرف، لكن السياسة تتجاهل. التكنولوجيا ترسم المسار، لكن القرار يختار العمى. والنتيجة: حرب تُطيل نفسها بنفسها، ومختطفون يُستخدمون وقوداً لآلة دعائية تستنزف الداخل الإسرائيلي وتفتك بالمدنيين الفلسطينيين.
سيأتي يوم – وربما قريب – يُكشف فيه أنّ إسرائيل كانت تعرف أكثر مما تقول، وأنّها فضّلت استمرار الحرب على إنهائها. وحينها، لن يُغفر للسياسيين أنّهم تركوا أبناءهم في الأسر، تماماً كما لن يُغفر لهم أنهم تركوا غزة غارقة في الدماء والدمار.
هكذا إذا كان رد الذكاء الاصطناعي على عنوان المقال، فهل يأتي قريباً يوم الحقيقة؟ ننتظر ونرى!
عن وكالة معا