الطوباوية في الفكر السياسي العربي: من الحلم إلى الانسداد

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

ظلّ الفكر السياسي العربي، عبر تاريخه، أسير ثنائية الطاعة والفتنة، واليوتوبيا والسلطة، يتأرجح بين المثال والحلم من جهة، والواقع المأزوم من جهة أخرى. لقد تحوّلت الطوباوية، في لحظات كثيرة، من كونها فضاءً للخيال الخلّاق إلى قيدٍ يعطّل التفكير النقدي، ويسوّغ الانكفاء على الماضي بدل الانفتاح على المستقبل. وهنا تكمن أهمية مساءلة هذا الفكر: كيف تشكّل؟ وكيف وظّفته السلطات والمعارضات؟ وما الذي أنتجته طوباوياته من انسداد تاريخي؟

ارتبطت المفاهيم السياسية العربية – منذ بداياتها – بمصطلحات مثل “الفتنة” و”الطاعة”، إذ تحوّل الأول إلى ذريعة للمعارضة، والثاني إلى أداة للسلطة لتبرير القمع وضمان الاستمرار. ومع مرور الزمن، لم يخرج الفكر السياسي من أسر هذه الثنائيات، بل غذّاها الفقه والتاريخ والكلام، فانبثقت فرق وأحزاب كرّست العجز عن بناء مشروع عقلاني واقعي.
نبّه ابن خلدون مبكرًا إلى أن وظيفة السياسة ليست جزءًا من النبوّة، بل ممارسة بشرية تقوم على الأخلاق والعقل. غير أن الواقع العربي ظلّ يخلط بين “السياسة الشرعية” و”سياسة الهوى”، مما فتح المجال أمام توظيف الدين والشرعية لتثبيت الحكم بدل مساءلته.
مع الحداثة، تطوّرت الطوباويات عالميًا، من أحلام المساواة إلى اليوتوبيا الشيوعية التي انهارت مع سقوط جدار برلين. لكن هذا الحدث لم يُنهِ الطوباويات كما ظنّ فوكوياما حين أعلن “نهاية التاريخ”، بل فتح الباب أمام أشكال جديدة من الطوباوية: قوميات منغلقة، شعبويات ضيقة، وهويات قاتلة. ومع العولمة، ازدادت الفجوات اتساعًا، وصار الأفراد يبحثون عن خلاصهم الخاص بدل الحلول الجماعية.
في هذا السياق، قدّم مفكرون مثل زيغمونت باومان وفرنسيس وولف قراءات جديدة للطوباويات المعاصرة، بين “ما بعد الأنسنة” و”النزعة الحيوانية” و”الكوسموبوليتية”. وهي نماذج تكشف أن الحلم السياسي لم يمت، لكنه تغيّر مساره وموضوعاته.
_ الخاتمة؛
يبقى الفكر السياسي العربي محاصرًا بين الطوباوية والواقع، بين الحلم والخذلان. غير أن الخطر اليوم لا يكمن في الحلم نفسه، بل في استثماره لتبرير الاستبداد والانغلاق. المطلوب إذن هو تحويل الطوباوية من مهرب إلى أداة نقدية، ومن حلم معزول إلى مشروع قابل للتطبيق.
فالسياسة، في جوهرها، ليست شعارات ولا أوهامًا، بل ممارسة تاريخية أخلاقية ترتبط بالعدل والحرية وكرامة الإنسان. إنّ تجاوز الطوباوية لا يعني التخلي عن الحلم، بل استعادته في صورته الخلّاقة، حيث يصبح الحلم مشروعًا، والمشروع ممارسة، والممارسة وعيًا دائمًا بالإنسان كغاية لا كوسيلة. وبهذا وحده يمكن أن يجد الفكر السياسي العربي مكانه في فضاء الإنسانية الحديثة.