محنة فقدان الحوار مع الآخر: من انسداد الوعي إلى ضياع الأفق:

بقلم: عماد خالد رحمة_ برلين.

الحوار مع الآخر ليس ترفاً فكرياً ولا خياراً ثانوياً، بل هو أساس من أسس الوجود الإنساني ذاته. فمنذ أن صاغ مارتن بوبر مقولته الشهيرة “أنا وأنت” (Ich und Du) بوصفها علاقة حوارية تأسيسية للوجود الإنساني، اتضح أن الذات لا تكتمل إلا بوجود الآخر، وأن أي انغلاق على الذات هو سقوط في عزلة قاتلة، تُفرغ الوعي من معناه وتحوّل الفكر إلى صدى أجوف.
لكن مأساة الفكر الثقافي العربي المعاصر أنه عاش طويلاً في محنة فقدان هذا الحوار، ليس فقط مع الآخر المختلف حضارياً وثقافياً، بل حتى مع الآخر الداخلي: الطوائف، المذاهب، الإثنيات، والتيارات الفكرية والسياسية. لقد تحوّل الحوار إلى صراع، والاختلاف إلى خصومة، والنقد إلى اتهام. وهكذا وقع الفكر العربي في ما يسميه هابرماس “عطب الفعل التواصلي”، حيث حلّت لغة السلطة والهيمنة محل لغة العقلانية التواصلية.
_1. الفكر العربي بين الأيديولوجيا والانسداد:
الفكر العربي –كما أشار المفكر المغربي محمد عابد الجابري في تكوين العقل العربي– ظل مشدوداً إلى ثنائية النقل والتراث من جهة، والاستلاب للغرب من جهة أخرى، دون أن يؤسس لنفسه عقلانية نقدية حوارية قادرة على إنتاج وعي جديد. وبدل أن يتحول الفكر إلى فضاء مفتوح على الاختلاف، أصبح أسيراً للأيديولوجيا المغلقة، يعيد إنتاج ذاته عبر خطابات طائفية أو عائلية أو نقابية، على نحو ما أشار إليه المثقف العضوي أنطونيو غرامشي عندما تحدث عن انكماش الفكر الثقافي إلى “حزب نفسه”.
لقد ضاع “السؤال الثقافي” في زحمة الاصطفافات المذهبية والبراغماتية السياسية، وتحوّل المثقف من شاهد على عصره إلى شاهد زور يخدم مصلحته الخاصة. وهنا بالذات تتجلى نتائج فقدان الحوار: العجز عن بناء مشروع نقدي، والتقوقع داخل دائرة مغلقة من النصوص والتأويلات التي لا تنتج إلا مزيداً من الانقسام.
_2. نتائج فقدان الحوار: من التشرذم إلى العنف الرمزي:
حين يغيب الحوار، ينشأ بديله الطبيعي: العنف. ليس فقط العنف الجسدي المباشر، بل ما يسميه بيير بورديو “العنف الرمزي”، أي آليات الإقصاء والتهميش والوصم التي تُمارس باسم الهوية أو الحقيقة أو الدين. وهكذا نجد أن محنة الفكر العربي لا تكمن فقط في انقطاعه عن الآخر الغربي، بل أيضاً في قطيعة داخلية جعلت الطوائف والإثنيات تتصارع على “امتلاك الحقيقة”، في حين يُفترض بالحوار أن يكشف نسبية الحقيقة وثراءها وتعدد أبعادها.
من هنا، لم تعد الثقافة العربية فضاءً للتفاعل الحر، بل تحوّلت إلى حقل صراع على السلطة الرمزية والمعرفية. وأدى ذلك إلى غياب ما يسميه بول ريكور “هيرمينوطيقا الفهم المتبادل”، أي القدرة على قراءة الآخر بوصفه شريكاً في إنتاج المعنى، لا خصماً يجب إلغاؤه.
_ 3. الشباب العربي بين العتمة وضياع الأفق.
إنّ أشد نتائج فقدان الحوار خطورة تتجلى في جيل الشباب العربي، الذي وجد نفسه أمام فراغ معرفي وأخلاقي. فعوضاً عن بوصلة عقلية نقدية توجه مساره، ورث هذا الجيل خطاباً متشظياً، منقسماً بين أصوليات مغلقة وأيديولوجيات عقيمة. لذلك نرى كثيراً من الشباب ينزلقون نحو العدمية أو التطرف أو الاستقالة من الفعل التاريخي، إذ لم يجدوا في الثقافة السائدة ما يمنحهم أفقاً للتفكير أو مجالاً للحوار.
_ 4. الحاجة إلى عقل حواري نقدي:
إن الخروج من هذه المحنة لا يكون إلا بإعادة تأسيس “عقل حواري” قادر على ممارسة النقد والاعتراف بالآخر. وهذا يتطلب –كما أكد يورغن هابرماس– إعادة بناء الفعل التواصلي على أساس المساواة والاعتراف المتبادل. فالحوار ليس مجرد تبادل للآراء، بل هو شرط أساسي لبناء مجتمع ديمقراطي عقلاني.
كما أن غاستون باشلار يذكّرنا بأن الفكر لا يتقدم إلا عبر “القطيعة الإبستمولوجية” مع أوهامه السابقة، أي أن نملك شجاعة نقد أنفسنا قبل نقد الآخرين. وحده هذا النقد الداخلي يمكّننا من أن ندخل في حوار صادق مع الآخر، دون خوف أو تبعية أو استعلاء.

_ خاتمة:
إن فقدان الحوار مع الآخر جعل الفكر العربي يعيش في عزلة خانقة، حولت الثقافة إلى صدى لصوتها الخاص، وأنتجت مزيداً من الانقسام والتشرذم والعنف الرمزي. لكن إمكانات النهوض ما تزال قائمة، شرط أن نعيد اكتشاف قيمة الحوار لا كوسيلة للتسوية فحسب، بل كأساس للوجود الإنساني نفسه، كما أراد بوبر، وكأداة للتحرر من العنف كما أراد هابرماس، وكشرط لتجاوز الأوهام كما علّمنا باشلار.
إننا، ونحن نعيش في زمن تتسارع فيه التحولات وتتصاعد فيه الانقسامات، بحاجة ماسّة إلى عقل حواري نقدي بنّاء، يكون بمثابة البوصلة التي توجه الشباب العربي نحو أفق جديد، حيث يكون الاختلاف مصدر غنى لا سبب شقاء، وحيث يكون الحوار طريقاً نحو إنارة المستقبل لا نحو تعميق العتمة.