ترى الباحثة بورجو أوزتشيليك أنّ الحرب الإسرائيلية الأخيرة على إيران قدّمت للنظام في طهران جرعة دعم قصيرة الأمد، لكنها لم تقدّم له حلولًا للمشاكل الداخلية المستعصية، خاصة الاقتصادية منها.
وفي مقال لها نشرته صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، أضافت أوزتشيليك أنّ متابعة الضغط العسكري على طهران من قبل الغرب لن يساعد قضية الشعب الإيراني.
في ما يلي الترجمة الكاملة للمقال من “الجادة”:
كشفت الحرب التي استمرت 12 يومًا مع إسرائيل في حزيران/ يونيو الماضي عن نقاط ضعف إيران في الاستخبارات، الأمن الداخلي والدفاعات الجوية. وفي مواجهة عدوان عسكري خارجي، لجأت الحكومة إلى نهج القومية.
ففي الساحات العامة ووسائل التواصل الاجتماعي، تنتشر مجموعة من الصور التي تُشيد ببلاد فارس التاريخية، كورش الكبير، برسيبوليس وغيرها من رموز ما قبل الإسلام، إلى جانب الرموز الدينية الشيعية. ويبدو أن ثمّة تحوّلًا “قوميًا جديدًا”، وصعودًا لجيل متشدّد ملتزم بالدفاع عن الجمهورية الإسلامية قيد التكوين.
وتصبُّ الرواية السائدة بشكل متزايد، القائلة إنه لا يمكن الوثوق بالغرب، في مصلحة النظام. ففي أعقاب القصف الإسرائيلي، والدمار المستمرّ في غزة، أصبح العديد من الإيرانيين متشكّكين بتعزيز التقارب مع الغرب مصالحهم الوطنية. ومع ذلك، فليس من المحتّم، كما جادل البعض، أن يتصلّب الجيل المقبل ليصبح أيديولوجيًا دينيًا أو قوميًا متشدّدًا.
عندما بدأت الضربات الإسرائيلية، لم يلتفّ الإيرانيون حول النظام بالإجماع، ولكن ساد شعور واسع النطاق بالفخر الوطني والتحدّي. ومنذ ذلك الحين، تضافرت القومية مع بثّ الخوف، مما أضفى الشرعية على إجراءات طهران القسرية ضد المعارضين تحت ستار الدفاع عن الوطن. في أعقاب حرب حزيران/ يونيو، شنّت الحكومة الإيرانية حملة قمع شديدة، مع ورود تقارير عن اعتقال ما يصل إلى 21 ألف “مشتبه به”.
بالنسبة لواشنطن وأوروبا، يتمثّل التحدّي بدحض ادعاء النظام بأنّ الغرب لا يمكن أن يكون شريكًا موثوقًا به للشعب الإيراني، أو لتطلّعاته إلى مستقبل أفضل.
يرتبط الصراع الدائر عمّن يتحدث باسم ماضي الأمّة وحاضرها ومستقبلها ارتباطًا وثيقًا بأزمة الخلافة في إيران. إنّ مسألة من سيخلف القائد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي تمسّ جوهر هوية الدولة الإيرانية.
ربما يكون النظام قد تلقى دفعة من الدعم قصير الأمد في أعقاب الضربات العسكرية الإسرائيلية والأميركية، لكنّ ذلك لم يحل التحدّي الأساسي الذي تواجهه طهران في تعزيز شرعيتها السياسية المتضائلة.
لا يمكن للخطاب القومي التنازلي أن يخفي التحديات الحقيقية التي تواجهها إيران. فالبلاد تعاني من انقطاعات حادّة في الكهرباء، إلى جانب سنوات من الجفاف وسوء الإدارة التي تُنذر بنقص يومي في المياه.
وقد أضرّت العقوبات الدولية، التي أعاد قادة بريطانيا، فرنسا وألمانيا فرضها يوم الخميس مع مهلة 30 يومًا قبل التنفيذ، وحملة “الضغط الأقصى” التي شنّها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاقتصاد الإيراني.
يُدرك الإيرانيون ذلك، وحكامهم أيضًا. فمعظم الأنظمة الاستبدادية لا تصمد لأنها مقاومة للتغيير، بل لأنها تتعلّم التحوّل. في الأسابيع الأخيرة، أشارت طهران إلى أنها تُعزّز صمودها السياسي والعسكري في حال نشوب حرب مستقبلية. وتمّ تسريع التعيينات العسكرية لتحل محل الشخصيّات التي أقالتها إسرائيل، والتي شملت القائد العام للحرس الثوري الإسلامي.
أُعيد علي لاريجاني، السياسي المخضرم، إلى منصب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، وهو المنصب الذي شغله آخر مرة قبل 18 عامًا، مما يُظهر أنّ القادة يفتقرون إلى مسؤولين عاقلين ذوي خبرة دبلوماسية.
دعا الرئيس مسعود بزشكيان وإصلاحيون آخرون إلى تجديد الدبلوماسية، لكنهم يتعرّضون لانتقادات من المعارضين السياسيين الذين يرون في التعاون مع الولايات المتحدة وأوروبا دعوةً لعدوان مستقبلي.
سيكون موقف الضباط العسكريين في السنوات القادمة حاسمًا. فهل سيتمسكون بهدف الحرس الثوري الإيراني المتمثل في تصدير الثورة – والذي يُقال إنه فشل – أم سيركزون بشكل أقل على إبراز القوة في الخارج وأكثر على الدفاع عن الجبهة الداخلية؟ سيعتمد الكثير أيضًا على توازن القوى بين القوات المسلحة النظامية والحرس الثوري الإيراني.
إنّ العودة إلى الدبلوماسية الجادّة بهدف التوصل إلى اتفاق دائم، بدلًا من محاولات لا تنتهي لكسب الوقت، أمرٌ أساسي. لكنّ إيران لا تُظهر سوى القليل من الدلائل على نيّتها تغيير نهجها. ففي تموز/ يوليو، دانت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون محاولات عملاء المخابرات الإيرانية “قتل، خطف ومضايقة الناس في أوروبا وأميركا الشمالية”.
إنّ إشارة طهران إلى اتباع نهج “مماثل” من خلال استمرارها في دعم حزب الله وغيره من الجماعات المسلّحة غير الحكومية، تُقوّض أي احتمال لاستقرار إقليمي طويل الأمد.
في نهاية المطاف، قد يشجّع تصاعد النزعة القومية الإيرانية طهران على الحد من دعمها المُكلف للجهات الفاعلة الإقليمية، والتركيز على المظالم الاجتماعية، السياسية والاقتصادية الكبيرة التي يعاني منها الإيرانيون.
في الداخل والخارج، ينفد الصبر تجاه نظام يُضحّي باحتياجات شعبه من أجل قضية “المقاومة” العابرة للحدود. ولكن إذا فشل الغرب في الانخراط دبلوماسيًا، واعتمد بدلًا من ذلك على الضغط العسكري، فلن يُساعد ذلك قضية الإيرانيين.