إنّ الديمقراطية ليست حجراً كريماً يُعلَّق على صدور الأمم، ولا أيقونة جاهزة للاستيراد في الحقائب الدبلوماسية، بل هي ـ كما يقول ألكسيس دو توكفيل ـ “حالة اجتماعية قبل أن تكون نظاماً سياسياً”. إنّها ثمرة تاريخية لتراكم طويل من التجارب والصراعات، وليست وصفة جاهزة تُنسخ أو تُستعار. ومن هنا، فإنّ مأزق الكثير من المجتمعات، ولا سيّما العربية، يكمن في حرق المراحل: أي استعجال الديمقراطية بوصفها نتيجة، من دون المرور بالشروط الممهّدة التي تجعلها ممكنة.
لقد شدّد كارل ماركس على أنّ البنية التحتية الاقتصادية تحدّد البنية الفوقية السياسية والفكرية، أي أنّ الديمقراطية ليست خياراً أخلاقياً محضاً، بل هي نتاج لتحولات في أنماط الإنتاج والعلاقات الاجتماعية. وحين ظهرت الديمقراطية في أوروبا، لم يكن ذلك بقرار نخبوي مفاجئ، بل كان حصيلة مخاضات: الثورة على الإقطاع، صعود البرجوازية، الإصلاح الديني، ثم التنوير الذي صاغ رؤية جديدة للعقل والحرية والإنسان. هذا التراكم التاريخي جعل الديمقراطية ـ كما أشار هابرماس ـ “مشروعاً تواصلياً يقتضي المران على الحوار”.
أما هانّا أرندت، فقد نبّهت إلى أن جوهر الديمقراطية لا يكمن في مؤسساتها الشكلية، بل في قدرتها على خلق فضاء عمومي يتشارك فيه الناس الكلام والفعل. الديمقراطية إذن ليست “تقنية حكم” بل أسلوب وجود جمعي، يتأسس على الاعتراف المتبادل، وعلى تحويل التعددية من مصدر صراع إلى مصدر غنى.
في السياق العربي، بيّن عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد أنّ الحرية لا تُستورد بل تُكتسب عبر التربية والممارسة اليومية، وأنّ الأمم التي لم تتعوّد على التحرر من الاستبداد لن تحسن ممارسة الديمقراطية، لأن الاستبداد يتجذّر في النفوس كما يتجذّر في المؤسسات. وقد ذهب هشام شرابي إلى أبعد من ذلك، حين أشار في النقد الحضاري إلى أنّ البنية الأبوية في المجتمع العربي تعيق أي محاولة حقيقية لبناء ديمقراطية، لأنّها تعيد إنتاج التراتبية والخضوع في المجالين العام والخاص.
وعليه، فإنّ الديمقراطية لا يمكن أن تُختزل في صناديق اقتراع أو في دستور مكتوب، بل تتطلّب شرطاً أنثروبولوجياً وثقافياً: تأهيل تربوي يربّي الأجيال على تقبّل التنوّع والاختلاف، اقتصاداً منتجاً يضمن الاستقلالية ويمنع الارتهان، ومجتمعاً مدنياً فاعلاً يقف بين الدولة والفرد، كما أكّد أنطونيو غرامشي حين ربط بين “الهيمنة الثقافية” وبناء الوعي الجمعي القادر على ممارسة الحرية.
إنّ استعجال الديمقراطية في غياب هذه الشروط يشبه محاولة قطف الثمار قبل أن تنضج؛ فالثمرة قد تبدو نضرة، لكنها سرعان ما تفسد لأنها لم تكتسب طعمها من التربة. الديمقراطية ـ كما يشير الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري ـ “مسألة بنيوية قبل أن تكون مسألة سياسية”، وهي تحتاج إلى إعادة بناء العقل العمومي، وتحرير الوعي من التبعية والانقسام.
لقد حاولت بعض الدول أن تستعير الشكل الديمقراطي دون المضمون، فكانت النتيجة “ديمقراطيات مشوّهة” أو ما يسميه بعض المفكرين ديمقراطيات الواجهة، حيث تُجرى الانتخابات في ظل غياب الشروط الموضوعية: حرية الإعلام، استقلال القضاء، ثقافة المواطنة. وهو ما يجعل التجربة عاجزة عن إنتاج تحول حقيقي، لأنها ببساطة قفزت على المراحل التاريخية الضرورية.
إنّ الديمقراطية ليست قشرة برّاقة، بل جذور متينة تنمو ببطء في أعماق المجتمع. إنّها مشروع حضاري طويل النفس، تمرين مستمر على الحرية، ورحلة تربوية في فهم الذات والآخر. وكما يذكّرنا علي شريعتي، فإنّ الحرية لا تُعطى بل تُنتزع، ولا تُمارس بالقرار بل بالوعي.
من هنا، يصبح السؤال الحاسم: كيف نبني الشروط التحتية للديمقراطية قبل أن نرفع شعاراتها؟ كيف نؤسس للوعي، للتربية، للثقافة، للاقتصاد المنتج، كي لا تبقى الديمقراطية شعاراً مُعلّقاً، بل واقعاً متجذّراً؟ ذلك هو الفرق بين استنبات الوهم وتأسيس الممكن.