العلاقة بين التاريخ والتراث علاقة جدليّة ذات تأثير متبادل لا يمكن الفصل بينهما. فإذا كان التراث هو ما قام الإنسان بإنجازه عبر علاقاته التاريخيّة الطويلة مع الطبيعة أولاً, والمجتمع على كافة مستوياته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والأخلاقيّة والفنيّة وغيرها من علاقات تمس حياة الفرد والمجتمع ثانياً, فالتاريخ يظل يمثل السجل الزمني الذي يسجل عليه أو فيه هذا التراث في سيرورته الدائمة. لذلك عندما نقوم بفصل التراث عن التاريخ أي فصل الأحداث عن سجلها, سيتحول التراث بالضرورة إلى جزر متقطعة عن بعضها في سياقها التاريخي, أي يتحول التاريخ إلى آنات زمنيّة, لا يربطها رابط على حد تعبير المتكلمين الأشاعرة, أو تتحول مكونات التراث إلى ذرات منفصلة عن بعضها كما يقول أصحاب المذهب الذري, ويكون التعامل مع هذه الجزر التراثيّة الذريّة – التي تنوس بين العقلي ولامتثالي.. بين القدري والجبري.. بين الديني والدنيوي…إلخ, – بمواقف أيديولوجيّة أو براغماتيّة تخدم في المحصلة قوى اجتماعيّة ومصالح محددة تتكئ على هذه الموقف أو ذاك من التراث, طالما هي تجد فيه مصلحتها هي بالذات. وهنا يحدث التشتت والضياع في عملية استلهام التراث, وبالتالي توظيفه وفق سياقه التاريخي ومدى صلاحيته عبر ذاك السياق, وما سقط منه أو استمر عبر سيرورة التاريخ.
من هذا المنطلق نؤكد على إعادة تعريف التراث والتاريخ معاً, ثم العمل على ربط طرفي المعادلة ربطاً منطقيّاً يُبين فيه دور ومكانة ووظيفة كل طرف من طرفي هذه المعادلة, مع ضرورة إعادة البحث وفق المناهج العلميّة للبحث في المواقف أو المواضيع التراثيّة بما يتفق والسياق التاريخي لها, ثم تبيان ما تجاوزه الزمن منها وأصبح عالة على النهضة والتقدم. أو إعادة تسليط الضوء على مازال صالحا لمعطيات الحاضر من المواقف أو المواضيع العقلانيّة, حتى لو كانت حُوربت وأقصيت تاريخيّاً من قبل قوى سياسيّة أو اجتماعيّة طبقيّة كان لها مصالح في هذا الإقصاء عبر فترات تاريخيّة محددة في الماضي.
على العموم, التاريخ ليس تاريخ ملوك وأمراء وخلفاء كما قال به الطبري وابن الأثير والمسعودي وغيرهم, وإنما هو تاريخ شعوب كونت تراثها الفكريّ والماديّ عبر صراعات وتناقضات اجتماعيّة ذات بنى طبقيّة لها مصالحها, والتي غالباً ما تقوم على تقسيم الثروة والسلطة والمكانة الاجتماعيّة, وهذه المعطيات تقوم أو تحدّد وفقاً لطبيعة ودرجة تطور أو تخلف قوى وعلاقات الإنتاج في مجتمع محدد, ومرحلة تاريخيّة محددّة.
إن القيام بدراسة التاريخ من جديد, يعني التأكيد على الربط بين هذه القوى الاجتماعيّة أو تلك, ممثلة بتجلياتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة, وبحركة سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين, ففي مثل هذا الربط يعتبر هذا التاريخ, تاريخ هذه القوى الاجتماعيّة ونتاجها, وفي حالات تواصله وليس حالات تجزئه وتذريره إلى جزر تراثيّة مشتتة, يأخذ منها كل باحث أو أديب او فنان أو أي مهتم بشأنها ما يراه مناسباً لطموحاته وأيديولوجيته وأهوائه أو طموحات وأهواء وأيديولوجيات القوى التي يريد التعبير أو البحث عنها وابرازها على حساب بقية القوى الأخرى المشاركة في صناعة هذا التراث.
أمام هذه المعطيات العقلانيّة في الرؤية إلى التاريخ والتراث, تظل هذه الرؤية بكل حمولاتها العقلانيّة تفرض علينا التساؤلات التالية: كيف ستتم عملية الاختيار تلك؟, ومن هي الحوامل الاجتماعيّة أو المؤسسات المناط بها عمليّة الاختيار؟, هذا في الوقت الذي لم نزل نجد فيه الحكومات والمثقفين والمفكرين الأيديولوجيين يتمترسون خلف مواقفهم التي تصل غالباً إلى حد الرفض والإقصاء والسجن والقتل لكل مختلف إن اقتضت الحاجة.
إن إعادة كتابة التاريخ والنظر إليه على أنه حركة مستمرة, ولكل مرحلة خصوصيتها, فهذا يعني :
أولاً: الوقوف ضد المؤرخ التقليدي (السلفي), الذي يرى أن التاريخ قد توقف عند القرن الثالث للهجرة, من منطلق أن القرون الثلاثة الأولى للهجرة هي قرون السلف الصالح الذين أعطوا كل شيء ولم يتركوا للأخلاف شيئاً, وكل ما جاء بعدها من أفعال وأقوال بدعة, وكل بدعة ضلالة.
ثانياً: الوقوف ضد هؤلاء الذين يعملون على تجويد صفحة الماضي بكل عُجرها وبُجرها من مؤرخي ومفكري ومثقفي الحاضر, هؤلاء الذين يعملون على تزوير التاريخ وتراثه من جهة, مثلما يعملون على دمج التراث وصهره بالحاضر دمجاً وصهراً ميكانيكيّاً لا جدليّاً, واعتبار هذا التراث عبر تاريخه هو المنطلق الوجودي والمعرفي لكل ما هو تالٍ.
إن الرؤية العقلانيّة للتراث تجعل عمليّة الدمج هذه أمراً متعذراً, وأن التشدق المتواصل بأمجاد الماضي بغثه وسمينه لأنه تراث الأجداد والسلف الصالح, سيعطي أبناء الحاضر كما يقول “سعد الله ونوس” امتلاءً عاطفيّاً زائفاً, كما يخفي إحساساتهم المرة بالعجز أمام ما يعيشه المجتمع أو الأمّة من تخلف وضياع وانكسارات واستغلال واستعباد واستعمار.. إلخ, تحت بيارق مجد واهم وزهو أحمق.
كاتب وباحث من ديرالزور- سورية
d.owaid333d@gmail.com
