إن أخطر ما يميز الضعفاء ليس ضعفهم ذاته، بل ما يشيّده وعيهم المموّه من أبراج أوهامٍ يظنونها حقائق قابلة للتجسّد. فالضعف، كما يقول نيتشه، ليس مجرد حالة وجودية، بل هو نمط تفكيرٍ يخلق قيماً زائفة تتستر وراءها العاجزية وتبرّرها. الضعيف لا يقوى على الفعل، لكنه يُعيد تأويل عجزه كحلم مؤجل، أو وعدٍ مؤجل بالتحقق، فيعيش أسير الانتظار. والانتظار هنا ليس خيارًا، بل هو بنية نفسية وكيان وجودي يعطل الإرادة ويشلّ الحركة.
يرى الفيلسوف الفرنسي بول ريكور أن “الوهم هو إساءة قراءة للزمن”، وهذا ما ينطبق على الضعفاء الذين يستهلكون أعمارهم في ترجمة عجزهم إلى وعود مستحيلة، دون أن يدركوا أن الزمن لا يتواطأ مع الضعف، وأن التاريخ لا يكتب سطوره بأقلامٍ مرتجفة. إنهم يتوهمون أن عجلة الأحداث ستلتفت إليهم، بينما لا أحد يذكرهم، ولا حتى ظلّهم.
ماركس كان واضحًا في نقده لفكرة الانتظار حين أشار إلى أن “التاريخ لا يفعل شيئًا، بل البشر هم الفاعلون الحقيقيون”. وبذلك فإن الضعفاء، بعجزهم عن المبادرة وبقائهم في خانة الانتظار، ينسحبون من المشهد ليتركوا خشبة التاريخ للمبادرين، لأصحاب الإرادة الفاعلة الذين يترجمون رؤاهم إلى واقع. إن التاريخ لا يسجّل المصلّين في محراب الأوهام، بل الذين صنعوا تغييرًا فعليًا.
إن أوهام الضعفاء أخطر من ضعفهم، لأنها تمنحهم شعورًا كاذبًا بالقوة، وتجعلهم سجناء وهمٍ دائم: انتظار الخلاص من الخارج، انتظار معجزة، انتظار رحمة الآخرين أو سقوط القدر من السماء. ولعل في هذا ما يفسر، بحسب إريك فروم، أن “الكثيرين يخافون الحرية لأنها تقتضي الفعل والمسؤولية”، فيلوذون بالوهم لأنه أهون وأقلّ كلفة من مواجهة الحقيقة.
وإذا كان نيتشه يرى أن “الضعفاء يخلقون أخلاقًا تحقيرية لتبرير ضعفهم”، فإننا ندرك أن أخلاق الانتظار ليست سوى غطاءٍ لوهمٍ دائم. فهم لا يدركون أن الزمن لا ينحني لأمانيهم، وأن “الوجود”، على حد تعبير هايدغر، لا يُمنح إلا لمن يملكون الجرأة على اقتحامه بالفعل.
إنه لمن العبث أن نبحث في التاريخ عن أثر تركه الضعفاء. لم يكن لهم أثر في الماضي، ولن يكون لهم حضور في الحاضر أو المستقبل. فالتاريخ لا يعرف الحياد، ولا يترك مكانًا لأوهامٍ لا تتحقق. العالم لا يتسع إلا لأولئك الذين امتلكوا الشجاعة والإرادة، لا لأولئك الذين اختبأوا خلف ستار الانتظار.
خلاصة القول: أوهام الضعفاء ليست فقط عجزًا عن الفعل، بل هي عجز عن الوعي بالعجز ذاته. وحين يتحول الوهم إلى إدمان، يصبح الضعف جدارًا لا يُخترق. لذلك، فإن أول شرط للحضور الفعلي في التاريخ هو التحرر من الأوهام، واستعادة الإرادة الحرة التي تجعل الإنسان فاعلًا في العالم، لا متسولًا على أبوابه.