الوحدة ليست انصهاراً في الآخر، بل هي لحظة انكشافٍ للذات حين تتجسّد في مرايا الآخرين. إنّها تلك الرؤية الباطنية التي تجعل الإنسان يدرك أنّه في صلب التنوّع يكتشف جوهر التماثل، وأنّ التعدّد ليس نقيض الوحدة، بل طبقاتها الخفيّة. حين قال الفيلسوف مارتن بوبر: «الذات لا تتحقق إلا في علاقة مع الآخر»، كان يُشير إلى أنّ الوعي بالهوية لا ينغلق على ذاته، بل يتفتّح في لقاءٍ يزيل الوهم عن حدود الأنا. ومن هنا تنشأ ضرورة إعادة صياغة فهمنا لهوية الأمّة العربية: ليست رقعةً متشظية، بل تراكمات جيولوجية تاريخية، كل طبقة منها تكمل الأخرى وتكشف عن عمقها.
فالمنظومة المسؤولة عن البناء النفسي والاجتماعي – الأسرة، المدرسة، الثقافة، الإعلام – لم تُحسن غرس هذا الوعي العميق بالجذور المشتركة. فبدلًا من أن تكون مرآة تُظهر الامتداد التاريخي والحضاري، تحوّلت في كثير من الأحيان إلى قوالب ضيّقة تُعيد إنتاج التجزئة. وهذا ما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته حين نبّه إلى أنّ العصبية إذا ضعفت انفرط عقد العمران؛ أي أنّ غياب الرابط الجامع يجعل الجماعة هشّة أمام العواصف.
أليس من الضروري أن يعرف أصحاب الجذور الكنعانية في لبنان وسورية وفلسطين وقرطاج أنّهم ليسوا غرباء عن الآراميين في العراق، ولا عن عرب الجزيرة، وأنّ لغاتهم القديمة – الكنعانية والفينيقية والآرامية والسبئية والحميرية – تنتمي إلى نهرٍ واحد؟ بل إنّها تتلاقى مع القبطية والأمازيغية، وكأنّ التاريخ ينسج خيوطه ليؤكّد أن الهوية العربية ليست جدارًا معزولًا، بل فضاءً حضارياً ممتداً. إنّ هذا الإدراك يعيد إلى الذاكرة ما قاله إدوارد سعيد: «الهوية ليست سجنًا، بل سرديةٌ تتشكل عبر تفاعلٍ دائم مع التاريخ والآخرين».
من دون هذا الوعي بالجذور، تتحوّل الأمة إلى فتات ورفات. فالتاريخ ليس ترفًا معرفيًا، بل شرط وجودي. بول ريكور، في حديثه عن الذاكرة، أكّد أنّ «نسيان الماضي يُعطّل إمكانية الفعل في الحاضر». والواقع العربي اليوم يعاني من هذا النسيان البنيوي، حيث يكتفي بالسطح السياسي ولا يغوص إلى الأعماق الثقافية التي تحفظ تماسك الشعوب.
إنّ إعادة جمع الشتات ليست مجرّد مشروع سياسي أو حلم رومانسي، بل ضرورة حيوية. حين تتعرّف الذات على مرآتها في الآخر، تُشفى من عقدة الانعزال، وتكتسب القدرة على تحويل التنوع إلى وحدة، والفوارق إلى وشائج. وهذا ما قصده الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري حين دعا إلى استئناف مشروع العقل العربي عبر نقد جذوره وفهم طبقاته. فالتاريخ هنا ليس عبئًا، بل هو رأس مال رمزي يُعيد إلى الأمة قدرتها على النهوض.
إنّ الوحدة، في معناها الأعمق، ليست شعارًا سياسيًا يُرفع، بل تجربة وجودية يعيشها كل فرد حين يدرك أنّه يرى في عيني أخيه العربي صورته. وما لم يُبنَ هذا الوعي منذ الطفولة – عبر المدرسة والإعلام والثقافة – سيظل الجدار النفسي بين أبناء الأمة أمتن من أي حدود سياسية.