في طوفان الموت والابادة الإسرائيلية الأميركية للسنة الثانية، الذي شهد ومازال يشهد أقذر وأبشع إبادة جماعية على الشعب العربي الفلسطيني في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، الذي جاء تتويجا وتكريسا لنهج المجزرة والمحرقة والمذبحة المتأصل في الوعي والممارسة الصهيونية والغربية الامبريالية وخاصة الأميركية، وتعمق مع مرور العقود الماضية من الصراع لتحقيق هدف وشعار الحركة الصهيونية “شعب بلا أرض، لأرض بلا شعب!”، المرتكز على قاعدة نفي وأوسع عملية تطهير عرقي ضد أبناء الشعب الفلسطيني.
ورغم ما حمله الطوفان الإبادوي على الشعب الفلسطيني من كوارث وفواجع واهوال غير مسبوقة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ألا ان الإبادة الجماعية لم تفقد الشعب والقيادة والنخب الفلسطينية ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا ال43 التي حلت أمس الثلاثاء 16 أيلول / سبتمبر، وذهب ضحيتها بالحد الأدنى 3000 الاف لاجئ فلسطيني من الأطفال والنساء والشيوخ والابرياء من أبناء الشعب الفلسطيني، التي نفذتها عصابات القوى الانعزالية اللبنانية والمدعومة ومغطاة من قبل جيش الإبادة الإسرائيلي في اعقاب خروج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان الشقيق الى عدد من العواصم والدول العربية الشقيقة، وما كان له (الجيش الإسرائيلي) احتلال العاصمة العربية بيروت الا بعد ابرام اتفاق بين قيادة الثورة الفلسطينية وفيليب حبيب الوسيط الأميركي، وبعد معارك بطولية طاحنة استمرت 88 يوما بين القوات المشتركة الفلسطينية اللبنانية وجيش دولة اسبارطة الصهيونية.
ومازالت مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا 16 أيلول / سبتمبر 1982حاضرة في الذاكرة والوعي الفلسطيني أسوة بمجزرة تل الزعتر التي سبقتها في 12 اب/ أغسطس 1976، ولم تندمل، ولن تسقط بالتقادم، لأنها تركت ندوبا غائرة وسوداء في الذاكرة والوعي الفلسطيني والعربي والدولي، كما المجازر الصهيونية الوحشية عشية واثناء وفي اعقاب نكبة أيار / مايو 1948، ومنها مجازر: دير ياسين والقدس عموما وحيفا وكفر قاسم والدوايمة والطنطورة والعباسية والخصاص والعشرات غيرها، وسيأتي اليوم الذي يحاكم فيه مجرمو الحرب الإسرائيليين أمواتا أو احياء، كما سيحاسب أولئك الانعزاليين مرتكبي مجزرة صبرا وشاتيلا وقبلها مجزرة تل الزعتر.
كما لم يكن من الممكن تجاهل استحضار ذكرى توقيع اتفاقية أوسلو ال 32، التي يدفع الشعب الفلسطيني على مدار العامين الماضيين أخطر وأكبر وأغلى فاتورة من الدم الفلسطيني على مدار عقود الصراع الطويلة، وكأحد إفرازات الاتفاقية، لأن المفاوض الفلسطيني لم يقرأ المعادلة الإسرائيلية جيدا، ولم يدقق في الفكر الصهيوني، وغيب من ذاكرته تركيبة النظام السياسي الإسرائيلي، والتحولات الاجتماعية والدينية الخطيرة التي شهدتها الساحة، والإنعطافة الحادة والصاعدة لقوى اليمين الصهيوني الديني والعلماني في الدولة اللقيطة والخارجة على القانون، وارتكز العديد من القيادات والنخب السياسية الفلسطينية على قاعدة تم تداولها بشكل مثير وملفت: أن اليمين المتطرف الصهيوني هو الاقدر على التوقيع وضمان أي اتفاقية “سلام”، وتجاهل الجميع الفرق بين فلسطين قلب المشروع الصهيوني والدول العربية الأخرى، مما أوقع الغالبية في حقل الغام القيادات الصهيونية، وفات الوفد المفاوض والقيادة السياسية الإصرار على ضرورة حسم الملفات الأساسية وإدراجها المباشر في الاتفاقية، وعدم القبول بالفترة الانتقالية الباقية حتى الان دون تنفيذ، حتى انه ترك الباب مفتوحا حول حدود الدولة الفلسطينية، وأبقى الامر عائما لجهة أن أراضيها “متنازع عليها”، والتي حسمت في عام 2012 استنادا الى القرار الاممي 67/19، الذي منح دلة فلسطين مكانة دولة مراقب في الأمم المتحدة، وأيضا الاكتفاء باعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية دون الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقه في تقرير المصير واستقلال وحرية الدولة على حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967، كما ابقى يد الاستيطان الاستعماري طليقا ومفتوحا على الغارب، وترك ملف اللاجئين والقدس العاصمة والامن والمعابر والثروات الطبيعية واسرى الحرية، والملف الاقتصادي والمالي اسيرا لبرتوكول باريس، الذي ابقاها في دائرة التبعية والمحوطة للاقتصاد والغلاف الجمركي الإسرائيلي.
كل ما تقدم وغيره من المثالب والنواقص الذاتية والموضوعية أغرق القيادة والشعب الفلسطيني في متاهات القيادات الإسرائيلية والأميركية الخطيرة، دون اغفال بعض الإيجابيات التي حققتها الاتفاقية في مسألتين هامتين الأولى عودة مئات الالاف من الفلسطينيين لأرض الوطن، والثانية وضع اللبنات الأولى للكيانية الفلسطينية، غير انها لم تَحل دون مواصلة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من تنفيذ مخططها التاريخي والاستراتيجي الاجرامي القائم على نفي الشعب من وطنه الام فلسطين، بالتلازم مع توسيع وتعميق خيار الاستيطان الاستعماري وفرض التطهير العرقي الاوسع والأخطر في زمن الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني في جناحي الوطن وخاصة في قطاع غزة. وبالتالي فإن ذكرى اتفاقيات أوسلو تركت بصمات وندوب غائرة في الوعي والذاكرة والحياة الفلسطينية. الامر الذي يتطلب استخلاص الدروس والعبر ومراجعة السياسات على مدار العقود الماضية لتجاوز تداعياتها الخطيرة.
