وعود واشنطن بالسلام مجرد غطاء لجرائم إسرائيل في غزة

السياسي – انتقدت مجلة فورين أفيرز الأمريكية، المسار العام للسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، معتبرةً أن واشنطن اعتمدت لعقود على “تفاؤل زائف” وشعارات رنّانة لإخفاء إخفاقات متراكمة من فلسطين إلى العراق وأفغانستان وسوريا.

ورأت المجلة أن هذا الخطاب المطمئن من واشنطن تجاه أزمات الشرق الأوسط لا سيما في فلسطين لم يكن بريئًا؛ بل خدم كغطاء لنهج عملي مكّن دولة الاحتلال الإسرائيلي من شنّ هجمات مدمّرة على غزة، بينما يواصل صُنّاع القرار في واشنطن تزيين الواقع وتجزئته بدل الاعتراف بجذور المشكلة.

ونبهت فورين أفيرز إلى أن وعود وقف إطلاق النار التي تكررت في عهد الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن لم تُفضِ إلى تغيير نوعي على الأرض؛ إذ ظلّت في كثير من الأحيان ستارًا لفظيًا لسياسة تتيح استمرار العمليات الإسرائيلية بأدوات أميركية، في وقت كانت فيه الإدارة تعلن دعمها للمسار الإنساني وتضغط باتجاه تهدئة مؤقتة.

وأكدت أن هذا التناقض بين الخطاب والنتيجة وثّقته أيضًا أدبيات متخصصة أشارت إلى أن هندسة “التهدئة الإنسانية” بمعزل عن معالجة السبب البنيوي للصراع أضعفت فاعلية الوساطة الأميركية وأطالت أمد الكارثة.

-دعم أمريكي مفتوح لإسرائيل

تدعم معطيات مستقلة جانبًا محوريًا في حجة المجلة: فبحسب مجلس العلاقات الخارجية، تلقت دولة الاحتلال نحو 310 مليارات دولار من المساعدات الأميركية على مدى عقود، ومع حرب غزة سُجّل أكثر من مئة عملية نقل عسكري خلال أشهر.

فيما خلص تقرير رسمي في مايو الماضي إلى أنه “معقول التقييم” بأن أسلحة أميركية استُخدمت في حالات لا تتسق مع التزامات القانون الدولي الإنساني؛ وهو ما تزامن مع تجميد شحنة قنابل ضخمة قبل هجوم رفح، من دون أن يتغير المسار العام للدعم. هذه الوقائع تكشف ملمح المفارقة التي تنتقدها المجلة: خطاب تهدئة معلن يقابله استمرار تدفق السلاح.

وتشدّد فورين أفيرز على أن “الفشل الأميركي” ليس جديدًا؛ بل امتدادٌ لسياسات قديمة منحازة لإسرائيل ومفصّلة وفق أولويات أمنية قصيرة الأجل، وهو ما راكم خسائر استراتيجية لواشنطن على مستوى السمعة والقدرة على التأثير.

وقد سبقتها تحذيرات فكرية من أن الولايات المتحدة تخسر موقعها الأخلاقي والسياسي في نظر جمهور “الجنوب العالمي”، وأن خطاب القيم لم يعد يُغطّي على التفاوت بين الأقوال والأفعال.

من زاويةٍ ميدانية، يضيف تحليل في مركز ويلسون أن مقاربات واشنطن “المهزوزة” في غزة ــ من ربط المساعدات بالهدنة، إلى إدارة التفاصيل اللوجستية للممرات ــ جاءت عكسية الأثر وأضعفت ما تبقّى من نفوذ، لأنّها تجاهلت لبّ المسألة المتمثل بالاحتلال وتجاوزات القوة على السكان المدنيين.

ويخلص التحليل إلى أنّ الاكتفاء بوقفٍ مؤقت لإطلاق النار دون إطارٍ سياسيٍّ يعالج جذور الصراع، يبدد رأس المال السياسي الأميركي بدل أن يضاعفه.

أما على مستوى الوزن الجيوسياسي، فتشير قراءات في معهد الشرق الأوسط إلى أن واشنطن ــ في ستة أشهر من إدارة ترامب الثانية ــ ظلت “تبحث عن إنجازٍ ملموس” في المنطقة، فيما لم تُترجم الوتيرة العالية من التحركات العسكرية والدبلوماسية إلى مكاسب استراتيجية دائمة.

هذه الخلاصة تعزز مقولة فورين أفيرز بأن نفوذ الولايات المتحدة تراجع إلى حدّ باتت معه حلفاؤها وخصومها يتصرفون على نحوٍ متزايدٍ بتجاهلٍ للدور الأميركي أو بتحوّطٍ منه.

-وهم التفوق وتجميل الواقع

في المحصلة، ترسم فورين أفيرز لوحة نقدية لنهجٍ يجمع بين وهم التفوق وتجميل الواقع: وعودٌ إنسانية بلا أدوات ضغط حقيقية، وشراكات أمنية تُدار بمنطق الثابت غير القابل للمراجعة، واعتقادٌ بأن إدارة الصورة تكفي لتعويض غياب النتائج.

لكن مسار الحرب في غزة ــ بما شمله من دمار هائل، وانكشافٍ قانوني، وتآكلٍ في الثقة العالمية ــ أظهر حدود هذا المنطق: فحين تُقاس السياسات بآثارها لا بخطابها، تبدو الولايات المتحدة شريكًا ممكّنًا لفعل القوة أكثر منها وسيطًا قادرًا على لجمها، وتغدو دعواتها لوقف النار مؤقتًا بلا معنى إذا كانت تتزامن مع صفقات تسليح متدفقة ومسارات مساءلةٍ غير مُفعّلة.

ولذلك، تدفع المجلة ضمنيًا باتجاه مراجعة جذرية: اعترافٍ صريحٍ بأن “الهندسة اللفظية” لم تعد تُقنع جمهور المنطقة ولا شركاء واشنطن، وأن استعادة المصداقية تمرّ عبر وضع المساءلة والقانون الدولي في صلب العلاقة مع إسرائيل، وربط أيّ وقفٍ لإطلاق النار بمسارٍ سياسيٍّ يعالج جذور الصراع لا أعراضه.

من دون ذلك، ستبقى الولايات المتحدة تدور في حلقة “إدارة الأزمات” بدل صنع الحلول، وتتحمّل كلفة خطابٍ يبشّر بما لا تستطيع تحقيقه، ويُسهم في إطالة عمر المأساة.