الأمة والفلسفة: الوعي كمرآة للتقدم التاريخي

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

إنّ الفلسفة ليست مجرد تراكمٍ من المفاهيم أو مناظراتٍ حول قضايا ميتافيزيقية، بل هي — في جوهرها — الوعي الأعلى الذي تبلغه الأمم حين تُدرك ذاتها في أفق التاريخ. فكما يرى هيغل، فإنّ “الفلسفة هي زمانها وقد أُمسك به في الفكر”، أي أنّها التعبير الأرقى عن روح العصر. ومن هنا، لا يمكن أن نتحدث عن أمةٍ حية إلا إذا ارتقت إلى مستوى الوعي الفلسفي، لأن هذا الوعي هو الشكل الأرقى الذي تتخارج فيه التجارب الإنسانية، ويتجسد فيه التقدم التاريخي.
فالأمة التي تنتمي إلى الفلسفة — لا الأمة التي تستدعي الفلسفة كزينة ثقافية — هي أمة قادرة على أن ترى ذاتها في مرآة الفكر الكوني، وأن تستوعب حركة التاريخ في شموليتها. يقول عبد الرحمن بدوي إنّ الفلسفة ليست ترفاً معرفياً، بل “هي الشرط الأسمى لكل يقظة حضارية”، إذ لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض من سباته دون أن يسائل نفسه عن المعنى، والغاية، والمصير.
إنّ الوعي الفلسفي ليس مكملاً للنهضة بل هو قلبها النابض. فحينما ازدهرت الحضارة العربية الإسلامية في عصورها الكلاسيكية، لم يكن ذلك بفضل السياسة أو القوة العسكرية فحسب، بل لأن ابن رشد والكندي والفارابي وابن سينا، قد جعلوا من العقل أداة لتشييد العالم وفهمه. وكان هذا الوعي الفلسفي هو الذي جعل الأمة — آنذاك — تنتمي إلى الكونية، إذ أعادت إنتاج الفكر اليوناني وأدخلته في مدارٍ جديد فتح أبواب الحداثة الأوروبية فيما بعد.
وفي المقابل، حينما تغيب الفلسفة، يغيب معها الوعي التاريخي، وتغدو الأمة أسيرة الجزئي والعابر. هنا يستحضرنا قول هوسرل عن “أزمة العلوم الأوروبية” التي بيّن فيها أنّ أي تقدّم علمي يفقد معناه إذا لم يُؤسس على وعي فلسفي يمنحه أفقاً إنسانياً شاملاً. فكيف بالأمم التي تتخلى عن الفلسفة برمّتها وتكتفي بالجزئي أو النفعي أو الشعاراتي؟ إنّها أمم محكوم عليها بالتيه.
لقد أدرك محمد عابد الجابري، في مشروعه “نقد العقل العربي”، أنّ أي نهضة عربية معاصرة لا بد أن تمر عبر مساءلة أنساقها الفكرية وموروثها العقلي. فهو يرى أنّ “العقل الفلسفي” وحده هو ما يُحرر الوعي من القيود الأسطورية والسلطوية، ويضعه على سكة التقدم. وبالمثل، يؤكد طه عبد الرحمن أنّ الفلسفة ليست حكراً على الغرب، بل هي “مقام يُستطاع فيه التفكير الحرّ المسؤول”، وبذلك تصبح الفلسفة فعلاً تحررياً لا ترفاً معرفياً.
وعليه، يمكن القول إن الأمة لا تُنتسب إلى الفلسفة بالصدفة، بل بقدر ما تستطيع أن تُحوّل الفلسفة إلى روح عامة في تعليمها، وإعلامها، ومؤسساتها، وحياتها اليومية. حينها فقط، يغدو الوعي الفلسفي هو التعبير الأرقى عن نضجها التاريخي. فالانتماء إلى الفلسفة هو انتماء إلى الكونية، إلى السؤال الذي لا ينغلق، إلى الحرية التي لا تُختزل.
إنّ الأمة التي تُقصي الفلسفة من حياتها، أو تحصرها في دائرة الأكاديميا المنغلقة، هي أمة ترفض أن ترى نفسها في مرايا التاريخ. أما الأمة التي تُصغي إلى الفلسفة، وتحوّلها إلى أفقٍ جامع لوعيها، فهي الأمة التي تفصح عن شمولية وجودها، وتُجسد معنى التقدم الإنساني في أرقى صوره. وكما يقول هيدغر: “الفلسفة لا تغيّر العالم، ولكنها تُغيّر علاقتنا بالعالم”، وبذلك فهي تغيّر التاريخ في عمقه.