العقل في التحليل السوسيولوجي

 د. عدنان عويّد   

إذا كان العقل في لغة العرب, يعني التحديد والتقييد, حيث ارتبط العقل هنا بكلمة عقال التي تفيد تقييد ساق الناقة حتى تبقى في مكانها. فإن دلالات العقل على المستوى الفلسفي, ظلت في سياقها العام قضية خلافية وإشكالية لدى المفكرين والفلاسفة على كافة مدارسهم, واتجاهاتهم الوضعية منها والدينية معاً. فهناك من اعتبر العقل ملكة وقوة من قوى النفس, وظيفتها استنباط الحقائق, وبها نستطيع تجاوز ما هو حسيُ وجزئي ومتعدد, إلى ما هو مجرد وكلي وواحد. ومن المفكرين الذين قالوا بهذه الرؤية الفيلسوف ” الكندي” في كتابه ( رسالة في حدود الأشياء ورسومها), حيث جاء عنده أن العقل ( جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها) . وهناك من قسم العقل إلى عقل نظري مجالهُ البحث في قضايا الرياضيات والطبيعيات والميتافيزيقيا والمنطق, وإلى عقل عملي, ومجاله السياسة والأخلاق, وهذا ما قال به الفيلسوف “الفارابي” في كتابه ( فصول منتزعة) حيث اعتبر القوة الناطقة (العقل), بأنها القوة التي َيعْقَلُ بها الإنسان, وبها  تكون الروية, وبها تبنى العلوم والصناعات, وبها يميز ما بين الجميل والقبيح, وهذه القوة منها ما هو نظري ومنها ما هو عملي .

هذا في الوقت الذي نجد فيه من يعتبر العقل أيضاَ عبارة عن مجموعة من القدرات والمهارات والتقنيات والمناهج التي تمكّن من الاستدلال والبرهنة, وهذا العقل في توصيفه يختلف ويتطور في مهاراته وقابلياته من مرحلة تاريخيّة إلى أخرى وفقاً لمجالات نشاطه. فالعقل وفقاً لهذه المعطيات هو وعي الإنسان وآليّة عمل هذا الوعي (الميكانيزم), في إدراك المحيط الذي ينشط فيه بكل مكوناته, وهذا الوعي يُكتسب تاريخيّاً عبر علاقة هذا  الإنسان مع الطبيعة والمجتمع معاً. أو بتعبير آخر العقل هو ما اكتسبه الإنسان عبر تنشئته التاريخيّة بكل ما تحمل هذه التنشئة من معطيات ماديّة وروحيّة. وهذا الفهم الأخير للعقل يدفعنا في المحصلة إلى تجاوز فكرة تعريف العقل, للنظر في تعيينه, أي تعيين الظروف التي تنتجه وتحدد بالتالي طبيعته ومهاراته وقدراته في هذه المرحلة التاريخية أو تلك, وضمن هذا الحقل المعرفي أو ذاك .

إن العقل إذن كما أراه, هو المعرفة الإنسانيّة, ووعي الإنسان بذاته وما يحيط به, معيّناً في مرحلة تاريخية محددة. أو بتعبير آخر, هو المعرفة الإنسانيّة في سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين. وبذلك يكون العقل خاضعاً بالضرورة لظروف إنتاجه الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والبيئيّة, وهي وحدها من يمنح العقل شقاءه أيضاً ممثلاً هنا في رؤاه الأسطوريّة, والامتثال والإطلاق والسجال والنقل والثبات, وفصل العقل أو المعرفة عن العالم الواقعي المحيط به. مثلما هي ذاتها من تمنح العقل تاريخيته أيضاً ( عقلانيته), بحيث يصبح محايثاً للعالم, ومترافقاً مع معطياته الماديّة والفكريّة/الروحيّة في حركتها وتعددها وتبدلها وكليتها ونسبيتها وجدليتها.

لماذا يكون العقل/ الوعي شقّيا ؟َ :

إذا كان شقاء العقل أو الوعي يكمن في مفارقة هذا العقل للواقع الذي أنتجه بسبب جهل حوامله, للقوانين التي تتحكم في هذا الواقع ذاته وآليّة عمله, وبالتالي محاولة تفسير ظواهر هذا الواقع بعمومها تفسيراً لا يمت لآليّة عمل هذه الظواهر والقوانين التي تتحكم فيها, وحالة حركتها وتطورها  وتبدلها, فهذا يعني في بعده الإنساني تحقيقاً لحالة اغتراب هذا الإنسان بكل أشكالها, بدءاً من اغترابه عن الطبيعة التي تحيط به وينشط عليها, مروراً باغترابه أو غربته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة, وصولاً إلى اغترابه أو غربته الروحيّة والثقافيّة .

إن جهل الإنسان وعجزه في اكتشاف قوانين الطبيعة بشقيها البيئي والاجتماعي, وآليّة عملها, حقق حالة غربته عن محيطه الطبيعي, لذلك خاف ظواهر الطبيعة بكل تجلياتها… خاف رعدها وبرقها وصواعقها وبراكينها وزلازلها وعواصفها وسيولها, قمرها وشمسها وكواكبها.. الخ, الأمر الذي جعل عقله / وعيه مغرّباً وشقيّاً, فدفعت هذه الغربة صاحب هذا العقل (الإنسان) لعبادة هذه الظواهر الطبيعيّة وخلق آلهة تمثلها وتتناسب في صفاتها وطبيعتها مع حالة تلك الظواهر وما تقدمه من خير أو شر له بغية تلافي شرها, أو إرضائها لتديم نعمها عليه, وهذه الغربة وما حققته من شقاء لعقل الإنسان لم تكن من صنع يد الإنسان ذاته في مراحل حياته البدائية, بل فرضتها الضرورة الحكميّة عليه.  أي تحكم قوانين الطبيعة به دون إرادته.

أما غربة الإنسان الاجتماعيّة, وما حققته أيضاً من شقاء  لعقله, فقد بدأت مع نشاط الإنسان عبر وجوده الاجتماعي, وما حققه هذا النشاط من تطور في وسائل وقوى وعلاقات إنتاجه, وبالتالي في وجوده الاجتماعي والروحي برمته, حيث أخذ يتخلص عبر هذا النشاط شيئاً فشيئاً من سيطرة قوانين الطبيعة العمياء عليه بعد أن راح يكتشف أسرارها وآليّة عملها عبر التجربة والمشاهدة المباشرة, ليدخل في غربة وضياع آخر في محيطه الاجتماعي بكل علاقاته الماديّة والروحيّة التي أنتجها بنفسه هنا, والتي تمثلت بالقوانين والأعراف والعادات والتقاليد وكل المثل الروحيّة التي أنتجها … الخ. ففي هذه الحالة من التطور الإنساني التي يتجلى فيها اغتراب الإنسان الجديد أو اللاحق في منتجاته, فإن أهم ما يتجلى فيه هذا الاغتراب, أو شقاء عقل الإنسان, في ما أبدعه من أساطير جديدة حاول بها تفسير وجوده في هذه المرحلة, فبعد أن تجاوز تأليه وأسطرة معطيات أو ظواهر الطبيعة المباشرة, أخذ يؤله ويؤسطر الكثير من علاقاته الاجتماعيّة والروحيّة الجديدة, حيث أخذت هذه الأساطير ذاتها تشكل الجذر الثقافي والمعرفي لحياته أو علاقاته الاجتماعيّة والروحيّة (الدينية) منها آنذاك بشكل خاص ولفترة زمنية طويلة, مجسدة في آلهة لها مهامها المختلفة والمتناسبة مع طبيعة علاقاته القائمة في تلك الفترة, بدءاً من آلهة الحب والخصب والمطر, مرورا بآلهة الحرب, وصولاً إلى الإله الملك أو الحاكم, الذي تحكم بالسلطة وراح يزيد في غربة وشقاء عقل من هم تحت سلطته حفاظاً على هذه السلطة.

لقد راحت الأسطورة تُنسج في حياة الإنسان في المراحل التاريخيّة اللاحقة لمرحلة الضرورة الحكميّة, أو البدائيّة,  من قبل مَنْ امتلك السلطة في شقيها الديني والسياسي من أجل التحكم في حياة أفراد المجتمع, وتحقيق غربتهم الماديّة والروحيّة, أي شقاء عقولهم… هذه الأسطورة التي جعلت الإنسان غير قادر على التمييز بين ذاته وموضوعها, فتركته ينظر إلى الظواهر جميعها نظرة إيحائيّة ذاتيّة, وهو ما يعني أنها لم تستطع أن تمنحه القدرة على أن يخطو الخطوة الفاصلة نحو التمثل العقلي ألبرهاني للكون, وبذلك ظلت الأسطورة تحيل إلى العواطف والانفعالات والذاتيّة والإيمان الامتثالي, وليس إلى الاستقراء والاستنتاج والتفكير والتجريد والبرهان. أو بتعبير آخر , الانتقال من وصف الأشياء, إلى البحث عن القوانين العلميّة التي تتحكم فيها, ومن البحث عن الأسباب, إلى الاهتداء للغايات التي تحركها, وأخيراً بلغة ” هيجل” نقول : من الوعي الشقي المنفصل عن العالم, إلى الوعي المحايث للعالم, والمترافق مع ميلاد العقل التاريخي والعقلانيّة.

ملاك القول: إن حالات الاغتراب هذه وما رافقها من شقاء للعقل, ظلت الأسطورة ذاتها, ولو بأشكال مختلفة, وبروح معاصرة تساهم بهذا الشكل أو ذاك, وبشكل فاعل ومذهل, وأحياناً بوعي مدرك تماماً لأهدافها, في التأثير حتى في عالمنا المعاصر, عالم ما بعد الحداثة, الذي فرضته علينا آليّة عمل اقتصاد السوق الاحتكاري, ممثلة بالطغمة الماليّة العالميّة وشركاتها المتعددة الجنسيات, التي تحكمت بقدر الإنسان الكوني عبر امتلاكها وسائل ماديّة ومعنويّة هائلة سخرتها بكل أشكال ووسائل الاستبداد والقهر بدءاً بالكلمة, وصولاً إلى الطلقة, من أجل تشييئ الإنسان واستلابه, وبالتالي تحقيق غربته وشقاء عقله/ وعيه, ونمذجته, أو تذريره كي يبقى عدداً (فرداً), وتركه يبحث عن خلاصه الإنساني الفردي خارج عالمه العياني, وبعيداً عن مصادر شقائه الحقيقي… أن يبحث عن خلاصه هناك في عالم العبث واللامعقول والنهايات والموت, بدءاً من نهاية منظومة الإنسان الأخلاقيّة الايجابيّة, وصولاً إلى نهايته التاريخيّة, أي عدميته, لتبقى فقط في هذا العالم سلطة سوق الرأسمال الاحتكاري حرة قويّة, كما رسمت لها أساطير قادة هذا النظام .

كاتب وباحث من سورية

d.owaid333d@gmail.com