سطوة الإيديولوجيا على العقل الأبستيمي:

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

 

المشرق والمغرب العربي بين ثنائية اللاهوتي والعلمي.
لا يمكن الحديث عن مسار الفكر العربي المعاصر دون الوقوف عند الأثر العميق الذي تمارسه الإيديولوجيا على تشكّل الوعي المعرفي (الأبستيمي) في فضائنا الثقافي. فالإيديولوجيا، كما وصفها كارل مانهايم، ليست مجرد نسقٍ من الأفكار المنفصلة عن الواقع، بل هي أداة للهيمنة وإعادة تشكيل الوعي الجمعي وفقاً لمصالح السلطة وأطرها المرجعية. وإذا كان لوي ألتوسير قد ربطها بـ«أجهزة الدولة الأيديولوجية» التي تكرّس الانقياد، فإن أثرها في السياق العربي بدا أوسع من ذلك، إذ تسلّلت إلى الفضاء المعرفي نفسه، لتعيد هندسة تصنيفات العقل بين ما هو مشروع وما هو مُقصى، بين ما يُحتفى به وما يُحجَب.

في المشرق العربي، رسّخت الأيديولوجيا السائدة حضوراً لاهوتياً مهيمنًا على الأبستيمي، بحيث جرى التعامل مع الفلسفة والفكر النقدي بوصفهما فرعاً من المعرفة اللاهوتية أو تابعاً لها. وهذا ما جعل الأبستيمية المشرقية مشدودة إلى الغيب والتفسير القدري، وهو ما حذّر منه محمد عابد الجابري حين أشار إلى «العقل المستقيل» الذي يلوذ بالميتافيزيقي على حساب النقد العلمي والبرهاني. في المقابل، اتّجه المغرب العربي – بفعل تأثير الفلسفات الحديثة والاحتكاك المباشر بالمدرسة الفرنسية – نحو عقلانية علمية وعَلمانية، جعلت الأبستيمي فيه أكثر قرباً من مناهج البرهان والتحليل والتاريخانية.
لكن هذا الانقسام بين «لاهوتية المشرق» و«علمانية المغرب» لم يتأسس – كما قد يبدو – على تطور طبيعي أو جدل معرفي حرّ، بل تكوّن بفعل سطوة الإيديولوجيا. فهي لم تشتغل هنا من خلال «الإبدال والإحلال» فحسب، بل عبر آليات أكثر خبثاً: التمييز بين المعرفات، العزل بين المدارس، الاجتزاء من التراث، والتهميش لمن لا يتوافق مع النسق المهيمن. وكأننا أمام ما وصفه فوكو بـ«أركيولوجيا المعرفة»، حيث تنكشف آليات السلطة المعرفية في تشكيل ما يُسمح له بالظهور وما يُدان بالخفاء.
إن خطورة هذه الثنائية تكمن في أنها ترسّخ قطيعة وهمية: فالعلماني العلمي يبدو نقياً ومتعالياً عن اللاهوتي، بينما يُصوَّر اللاهوتي كدونية معرفية أو عائق أمام النهضة. غير أن هذه القطيعة نفسها هي نتاج اشتغال الأيديولوجيا التي تختزل التعدد المعرفي وتُحوّله إلى ثنائيات صلبة، بدلاً من أن تسمح بتفاعلٍ جدلي وتكاملٍ خلاق بين الحقول. فلو نظرنا إلى تراث الفارابي أو ابن رشد، لأدركنا أن التفكير العربي الكلاسيكي لم يعرف هذه الحدود الصارمة بين اللاهوتي والعلمي، بل اشتغل في فضاء التداخل والتكامل.
ما نحتاجه اليوم، إذاً، ليس تكريس هذه القطيعة المصطنعة، بل تفكيكها. وهذا التفكيك لا يتم إلا بكشف آليات الأيديولوجيا التي فرضتها، وبإعادة الاعتبار إلى الأبستيمي كحقلٍ حرّ يتغذى من النقد والبرهان، دون أن يُختزل في خدمة أي مشروع إيديولوجي. كما يدعو بول ريكور، يجب أن نتجاوز «هيرمينوطيقا الريبة» لنصل إلى تأويلٍ يحرر النصوص والمعارف من قبضة السلطة، ويمنحها حقها في إنتاج المعنى بصدق وحرية.
إن مشروع النهضة العربي الحقيقي لن يولد من إعادة تدوير الصراع بين «لاهوت المشرق» و«علمانية المغرب»، بل من وعيٍ جديدٍ يُدرك أن سطوة الإيديولوجيا على الأبستيمي هي الخطر الأكبر. فالعقل العربي لا يحتاج إلى إعادة إنتاج ثنائيات إقصائية، بل إلى بناء جغرافيا معرفية تسمح بالتعدد، وتفتح أمامنا إمكانيات التفكير النقدي الخلّاق الذي يحرر الإنسان من وصاية الأيديولوجيا، ويعيد إليه حقه في أن يكون فاعلاً لا مفعولاً به في سيرورة التاريخ.