في جدلية الأخلاق الفردية والتكيف الاجتماعي والوطني :

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

 

الأخلاق والوطنية وجهان لعملة واحدة، إذ لا يمكن للوطن أن ينهض بأجساد أبنائه إذا خلت قلوبهم من الفضيلة، ولا يمكن للأخلاق أن تزدهر في فراغٍ من الانتماء إلى الأرض والهوية. فالوطنية الحقّة ليست شعارات جوفاء ولا انفعالات عابرة، بل هي تجسيد عملي للقيم العليا: الصدق في الانتماء، العدل في التعامل، والإخلاص في العمل. وكما أن تهذيب النفس يقوم على مقاومة الرذائل بالفضائل، فإن تهذيب المجتمع يقوم على مقاومة الفساد بالوطنية، والظلم بالعدل، والفرقة بالوحدة. وهكذا يصبح الارتقاء الأخلاقي هو السبيل الأضمن لحماية الوطن، ويغدو التمسك بالمبدأ الوطني فعلًا من أفعال الطهر النفسي والالتزام الإنساني.
ولا يكون تهذيب النفس مجرّد حركة داخلية عابرة، بل هو فعل وجودي يرقى بالإنسان من مستوى الغرائز إلى مستوى القيم. فمقاومة الأخلاق السلبية لا تتحقق بالانكفاء ولا بالانسحاب، بل بالمجابهة الضدية التي تصوغ التوازن النفسي والأخلاقي: الحلم ضد الحدة، الصبر ضد النزق، والصدق ضد الكذب. وكما ذهب أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين، فإن المجاهدة الأخلاقية هي السيرورة التي تقوّي سلطان العقل الروحي على نوازع الشهوة، فيغدو الإنسان أقرب إلى مقام الأنبياء والأولياء، أي مقام السمو على ضعف الطبيعة البشرية.
لكن هذه المجاهدة الفردية لا تنفصل عن الشرط الاجتماعي؛ إذ للبيئة والتربية دورٌ أساس في تشكيل الأخلاق. فكما أشار ابن خلدون في مقدمته، فإن “الإنسان ابن بيئته”، يتأثر بعوائدها وأنماط عيشها، بل ويكتسب منها طباعه وسلوكه. غير أنّ هذا لا يلغي دور العقل والإرادة الحرة في التمييز بين الخير والشر والسعي نحو الكمال الأخلاقي، بل يعزز ضرورة الوعي النقدي تجاه ما يُفرض من الخارج.
وهنا يبرز سؤال التكيف: هل على المواطن أن يتكيف مع كل ظرف اجتماعي أو سياسي أو ثقافي أو اقتصادي، مهما كان؟ إن التكيف فضيلة حين يكون أداة للاستقرار والتفاعل الإيجابي، لكنه يتحول إلى رذيلة إذا كان ثمنه التخلي عن المبادئ الأخلاقية. في مثل هذه الحالات، يصبح “الرفض” هو التكيف الأعلى، لأنه انسجام مع الضمير والوجدان، لا مع انحراف الواقع. لقد كتب مالك بن نبي عن “القابلية للاستعمار” باعتبارها انكساراً داخلياً يهيئ الأرضية للظلم الخارجي؛ ومن هنا فإن مقاومة هذا الانكسار تبدأ من رفض التكيف مع القهر والفساد والتمييز.
إن المواطن الحرّ لا ينصاع للأمر الواقع حين يُطلب منه أن يشارك في جريمة ضد هويته أو وطنه أو قيمه. على العكس، فإن جوهر الأخلاق يتمثل في القدرة على التضحية بالمصلحة الشخصية من أجل المبدأ الكوني للعدالة والحق. يقول محمد عابد الجابري في نقده للعقل العربي: “الأخلاق هي في جوهرها وعي نقدي بالذات وبالآخر”، أي أن الأخلاق الحقّة تتجاوز الطاعة العمياء لتصبح موقفاُ وجودياً يوازن بين ما يُطلب من الخارج وما يمليه الضمير.
إن الوصول إلى مرتبة الكمال الأخلاقي ليس مجرّد انضباط فردي داخلي، بل هو مقاومة مستمرة للمغريات ولإغراءات التكيف السلبي. فالنفس التي تتطهر بالصبر والحلم والصدق لا تعيش في برج عاجي، بل في خضم مجتمع متقلب. وكلما قاومت إغراء الانصياع للأعراف المنحرفة أو السلطة الجائرة، ازدادت سموّاً. وهذا ما يجعل الأخلاق في النهاية مشروعاً جماعياً يحقق الاستقرار الحقيقي، لا الاستقرار الزائف القائم على القهر والتزييف.
وهكذا، فإن تهذيب النفس لا ينفصل عن تهذيب المجتمع، ومقاومة الرذائل الفردية تقترن بمقاومة الرذائل الجماعية. وبين التكيف المشروع والرفض المشروع، يظلّ العقل الأخلاقي هو البوصلة التي تضمن للإنسان سعادة الداخل وكرامة الخارج، فيلتقي الفرد مع الجماعة على طريق الكمال الإنساني.