منذ أن غادرت عشرات القوارب الأوروبية موانئ المتوسط باتجاه غزة، تحمل مئات النشطاء، إلى جانب شحنات رمزية
من المساعدات الإنسانية، والمشهد يتدحرج ككرة نار نحو مواجهة محتومة بين الإرادة الشعبية العابرة للقارات، وبين آلة الاحتلال الإسرائيلي التي تصر على إبقاء غزة سجنا مغلقا. أسطول الصمود العالمي ليس مجرد سفن خشبية أو قوارب صغيرة، إنه استفتاء حي على شرعية الحصار، وصوت الملايين الذين لم يعودوا يطيقون صمت حكوماتهم على واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ الحديث، الإبادة عبر التجويع والقصف والحصار.
منذ اللحظة الأولى، أدركت إسرائيل خطورة هذا المشهد. ليست الخطورة في الكميات المحدودة من الدواء أو الطحين التي تحملها السفن، بل في الصورة. صورة العلم الفلسطيني يرفرف فوق سفينة أنطلقت من ميناء أوروبي، تحمل على متنها ناشطة المناخ السويدية غريتا تونبري، ومئات الحقوقيين والسياسيين والنقابيين القادمين من القارات الخمس. الصورة التي تحاصر إسرائيل أخلاقيا، وتضعها في مواجهة الرأي العام العالمي، تماما كما وضعتها قبل خمسة عشر عاما في مواجهة “أسطول الحرية” الذي هز العالم حين سقط الدم على مياه المتوسط.
اليوم، تحاول إسرائيل أن تعيد كتابة السيناريو، الاعتراض المبكر، تجريف السفن نحو ميناء أسدود، اعتقال النشطاء ثم ترحيلهم، وإغراق الحدث في ضجيج البروباغندا. لكنها تواجه سياقا مختلفا هذه المره، حرب إبادة في غزة استمرت لعامين كاملين، عشرات آلاف الشهداء، مئات آلاف الجوعى، وحركة تضامن عالمية لم تشهدها القضية الفلسطينية منذ عقود. الأسطول هنا ليس مجرد تحد بحري، بل اختبار لإرادة الشعوب في مواجهة عجز الأنظمة.
المشهد النهائي المتوقع يتراوح بين ثلاثة سيناريوهات رئيسية. الأول، وهو الأكثر ترجيحا، أن تمنع إسرائيل جميع السفن من دخول غزة، وتحولها بالقوة إلى موانئها. هذا السيناريو يحقق لإسرائيل مكسبا تكتيكيا لكنها ستدفع ثمنه استراتيجيا، مشاهد الاعتقالات والاعتراض ستملأ شاشات التلفزة، وستفجر موجات احتجاج في العواصم الكبرى. الثاني، أن ينجح بعض القوارب بالوصول أو بالاقتراب من شواطئ غزة، ما سيشكّل نصرا رمزيا هائلا، حتى لو لم يحمل سوى شوالات طحين قليلة. والثالث، وهو الأخطر، أن ينزلق المشهد إلى مواجهة دامية يسقط فيها قتلى أو جرحى بين النشطاء، وحينها سيتحول البحر إلى فضيحة دبلوماسية قد تعصف بالعلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول الأوروبية.
لكن بعيدا عن الحسابات العسكرية المباشرة، هناك حقيقة لا يمكن لإسرائيل الإفلات منها، لقد خسِرت معركة الصورة. حين ترى الملايين مشاهد الشرطة الإيطالية وهي تواجه متظاهرين يقطعون الطرق تضامنا مع غزة، أو حين تنقل صور إضرابات النقابات الأوروبية رفضا للحصار، فإن الرسالة تصل واضحة، الحصار لم يعد شأنا فلسطينيا فقط، بل صار قضية عالمية، وصار كل ميناء يغلق في وجه أسطول الصمود ساحة مواجهة بين الشعوب وحكوماتها.
ما لا تدركه إسرائيل أن العالم تغير. الأجيال الجديدة التي تملأ الشوارع في باريس وبرلين ونيويورك ومدريد، هي ذاتها التي أسقطت أساطير كثيرة، من شرعية الاستعمار القديم إلى عنصرية أنظمة التمييز. هذه الأجيال تقرأ غزة كرمز، وتقرأ أسطول الصمود كترجمة عملية لشعار “لن نصمت بعد الآن”. لذلك، فإن أي محاولة إسرائيلية لإغراق السفن في بحر العزلة الإعلامية ستبوء بالفشل. اليوم، كل هاتف محمول على متن الأسطول قادر على نقل المشهد لحظة بلحظة، وكل منصة رقمية قادرة على تحويل سفينة خشبية إلى حدث كوني.
المشهد النهائي، إذن، لن يقاس بعدد السفن التي تصل أو لا تصل، بل بما سيبقى في الوعي الجمعي. وسيبقى أن إسرائيل، رغم قوتها العسكرية، وقفت عاجزة أمام قوارب صغيرة يقودها نشطاء عزل. ستبقى صورة الجنود المدججين بالسلاح وهم يقتحمون قاربا يحمل أطباء وحقوقيين ونشطاء سياسيين، هي أقوى من مئة بيان رسمي. وسيبقى أن الملايين الذين تظاهروا في العواصم العالمية لم يفعلوا ذلك استجابة لنداء حكوماتهم، بل بدافع إنساني بحت، وهذه سابقة لا تستطيع إسرائيل ولا حلفاؤها الأميركيون شطبها من التاريخ.
في النهاية، لا يمكن لأسطول الصمود أن يكسر الحصار العسكري المفروض على غزة، لكن بإمكانه أن يكسر الحصار السياسي والأخلاقي الذي تحاول إسرائيل فرضه على العالم. وكما كتب أحد النشطاء على لافتة مرفوعة في ميناء نابولي، “قد لا تصل السفن إلى غزة، لكن غزة وصلت إلى ضمائرنا”. هذه هي الحقيقة التي يخشاها الاحتلال، أن تتحول معركة البحر إلى معركة ضمير عالمي لا تنتهي.
إنها ليست معركة قوارب صغيرة أمام بارجات حربية فحسب، بل معركة إرادة إنسانية في وجه آلة القتل. أسطول الصمود قد لا يحرر غزة من الحصار، لكنه يحرر ملايين العقول من الخوف، ويضع إسرائيل في الزاوية التي حاولت طوال عقود تجنبها، أن يرى العالم حقيقتها كدولة فصل عنصري تمارس الإبادة أمام أعين العالم. وهذا هو المشهد النهائي الأهم، المشهد الذي سيبقى … غزة محاصرة بالسلاح، لكن إسرائيل محاصرة بالوعي.
