قال المتنبي في بيت صار مثلاً يجري على الألسنة:
“لكل داءٍ دواءٌ يُستطبُّ به *
إلا الحماقة أعيت من يداويها”
وليس مصادفة أن يقترن ذكر الحماقة بأعجز الأدواء علاجاً، فهي ليست جهلاً عابراً يُمحى بالعلم، ولا غباءً يمكن أن يُعوّض بالمران والتجربة، بل هي كساد في العقل، وانغلاق في الروح، وتصلّب في مسارب الوعي، كما لو أن المرء فقد القدرة على مراجعة نفسه ورؤية مواضع ضعفه
._الحماقة بين الغرور وضيق الأفق:
لقد قيل في تصنيف البشر: “من يدري ويدري أنه يدري فذلك العالم فاتبعوه، ومن يدري ولا يدري أنه يدري فذلك الناسي فذكّروه، ومن لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك الجاهل فعلّموه، ومن لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك الأحمق فتجنّبوه”.
هنا يتضح أن الأحمق ليس مجرد إنسان ناقص المعرفة، بل هو ذاك الذي يحجب جهلَه بغرورٍ يظنه علماً، ويُكابر فيما يجهل، حتى يغدو حجابُ الوهم عنده أعتم من الجهل ذاته.
وقد ذهب الفيلسوف إراسموس في كتابه مديح الحماقة إلى أن الأحمق يعيش في وهم الاكتفاء الذاتي، ويحسب أن الناس إنما تدور في فلكه، غير مدرك أن ضحكهم ليس إعجاباً به بل سخرية من عماه. وهو ما يلتقي مع ما قاله ابن حزم الأندلسي: “من امتُحن بالعجب، فقد وُكِل إلى نفسه”، أي أنه يُساق إلى الهلاك بعمى الغرور.
_الغيرة والحسد: قرابة الأرواح المريضة.
غير بعيد عن الحماقة تقبع الغيرة والحسد، وهما آفتان من جنسها، إذ يقومان على فساد النظر إلى الذات والآخر. فالغيور لا يرى نجاح غيره إلا تهديداً لوجوده، والحسود لا يحتمل نعمة في يد سواه، وكلاهما –كما الأحمق– يفتك بنفسه قبل أن ينال من غيره.
وقد قال الغزالي إن الحسد “اعتراض على قسمة الله”، فهو لا يفضح فقط ضيق النفس، بل يُشير إلى خلل أعمق: عجز عن الاعتراف بعدالة الوجود، وانسداد في أفق الرضا. بينما رأى شوبنهاور أن الحسد هو “أكثر الرذائل حقارة، لأنه يعترف بتفوق الآخرين دون أن يستفيد منه شيئاً”.
_صفات الأحمق: من ضوضاء اللسان إلى تصلب القلب.
من أبرز ما يميز الأحمق كثرة الكلام مع قلة المعنى، كما قيل: “الأحمق يحدثك فيغرك بأول كلامه حتى تظن أنه عاقل، فإذا تمادى بان حمقه”. وهذه آفة بيّنها سقراط حين قال: “الذكاء أن تعرف ما تقول، والجهل أن تقول كل ما تعرف، وأما الحماقة فهي أن تقول ما لا تعرف”.
ثم إن الأحمق قليل الإحساس بآلام الآخرين، سريع الجزع لمصيبته الخاصة، يهوّلها ويجعل منها مركز الوجود. وقد وصف نيتشه هذه الطبيعة بقوله: “الأحمق يجعل من ظله قضية كبرى، حتى ليحسبها شمساً لا تُطاق”.
_هل الحماقة قدر أم اختيار؟
قد يُظن أن الحماقة قدر محتوم، غير أن كثيراً من الفلاسفة رأوا فيها اختياراً يتغذى من الكسل العقلي ومن ضيق الأفق. فالإنسان يستطيع أن يتعلم، وأن ينقد ذاته، وأن يتواضع في طلب الحقيقة؛ فإذا أعرض عن كل ذلك واستراح إلى غروره، صار الأحمق الذي لا شفاء له.
_خاتمة: كيف نقي أنفسنا من عدوى الحمق؟
الحماقة ليست مرضاً معدياً بالمعنى البيولوجي، لكنها عدوى نفسية وفكرية. فمجاورة الأحمق تستهلك طاقة العقل وتستنزف الأعصاب، كما أن الدخول معه في نقاش عقيم أشبه بمطاردة سراب في صحراء. لذلك كان القول المأثور: “الجدال مع الأحمق كالنفخ في الرماد”.
ولعل العزاء أن علاج هذه الأدواء يبدأ بالوقاية: بالابتعاد عن مجالس الحمقى، وبالتزود بما يقي الروح من الغيرة والحسد، وهو العلم المتواضع، والإيمان الراضي، والنفس التي لا ترى في نجاح غيرها خصماً بل شريكاً في رحلة الوجود. فالأحمق يظن نفسه مركز الكون، أما العاقل فيدرك أن الكون أوسع من أن يحتكره فرد، وأجمل من أن يفسده حاسد أو مغرور.