الأيديولوجيا هي مجموعة الآراء والأفكار السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي تعبر عن واقع أمّة ما أو طبقة ما في مرحلة تاريخيّة محددة. وعلى الرغم من كل المواقف العدائيّة التي اتخذت ضد الآيديولوجيا في مؤتمر ميلانو عام 1956 في إيطاليا من قبل المؤتمرين بغية تفريغها من مضمونها الإنساني, حيث توصل المؤتمرون في هذا المؤتمر إلى حزمة من القرارات المتعلقة بإدانة الأيديولوجيا لا لكونها هي سبب ظهور النزعات الفاشية والنازية التي كانت وراء الحرب العالميّة الثانية, ووراء محاصرة الإنسان وقمع حرياته فحسب, بل هي أيضاً إدانة لكل الأنظمة التي تبنت في سياساتها مواقف أيديولوجيّة كبرى, والمقصود آنذاك الأنظمة الاشتراكية ممثلة بالمنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي.
عمواً ما أريد التأكيد عليه هنا, هو: إن أيّة نظريّة أو أيديولوجيا عندما تنغلق على نفسها وتتحول إلى مكوّن فكري منعزل عن الواقع ومتعالي عليه, وغير قادر على استيعاب حركته وتطوره وتبدله وكل مكوناته الاجتماعية, عرقيّة كانت أو ودينيّة أو سياسيّة بكل مفرداتها المذهبية والطائفية والنظرية وآلية حركتها, سيتحول هذا المكوّن (الآيديولوجيا أو النظريّة), إلى قوة فكريّة وماديّة تعرقل حركة الواقع بدلاً من تقدمه, وستجعل من حملتها الاجتماعيين مجرد أدوات منغلقة هي أيضاً على نفسها عقلياً واجتماعياً (طبقيّاً) وسياسياً, يمارسون عصبويتهم وعنصريتهم وفوقيتهم ونخبويتهم وتمايزهم عن الآخرين من جهة, ومن جهة ثانية, يريدون جعل الواقع الذي يعشون فيه أن يرتقي دائماً إلى نظريتهم أو أيديولوجيتهم وبالتالي مصالحهم, حتى ولو رجعوا بهذا الواقع مئات السنيين إلى الوراء. وبالتالي فكل من يخالفهم في الرأي هو في المحصلة إما خائناً وعميلاً ضد الدولة بالنسبة لأصحاب الأيديولوجيات الوضعيّة عندما يكونون في السلطة أو خارجها, أو مبتدعاً وخارجاً عن أهل الفرقة الناجية والجماعة بالنسبة لأصحاب النظريات الدينيّة, إن كانوا في السلطة أو خارجها أيضاً. وهنا تكمن الخطورة, حيث يبدأ تشكل التطرف من قبل كل حملة هذه الأيديولوجيات المغلقة, وما يرافق هذا التطرف من إرهاب واستخدام لوسائل القمع والمنع في محاربة الآخر واقصائه, حيث تصل درجة المحاربة إلى حد التصفية الجسديّة في أحيان كثيرة. ولكن في المقابل تستطيع هذه الأيديولوجيات الدينيّة أو الوضعيّة أن تتحول إلى قوة ماديّة وفكريّة تعمل على خدمة الإنسان ورقيه ونموه. أي تصبح قادرةً على مراعاة مصالح مجتمعاتها وخصوصيات واقعها المعيش. أو بتعبير آخر, تصبح قادرةً على مراعاة حركة هذا الواقع وتطوره عبر التاريخ, عندما لا تغريها شهوة السلطة, وتجعل في أولى اهتماماتها مصالح الفرد والمجتمع قبل أي شيء آخر. أي تتحول إلى وعي مطابق له أهدافه التكتيكيّة والاستراتيجيّة معاً.
ملاك القول: إن كل أيديولوجيّة أو نظريّة فكريّة تنغلق على نفسها وتعمل على ليّ عنق الواقع بكل مكوناته كي ينسجم هذا الواقع معها, أي مع مصالح حواملها الاجتماعيين إن كانوا في السلطة أو خارجها, هي أيديولوجيّة وثوقيّة جموديّة أو سكونيه, تعتمد على مرجعيات عصبويّة اجتماعيّة تقليديّة, طائفيّة كانت أو مذهبيّة أو عرقيّة, أو تعتمد على مرجعية نخبويّة تعتبر نفسها وصيّة على الجماهير, وليست هذه الجماهير بنظرها أكثر من رعايا, غير قادرين على قيادة أنفسهم, وبالتالي هي وحدها المسؤولة عن مستقبلهم وحياتهم بعجرها وبجرها.
أما عندما تتحول هذه الأيديولوجيّة أو النظريّة إلى (وعي مطابق) .. أي تتحول إلى مجموعة من الرؤى والأفكار التي تجاري الواقع في حركته وتطوره وتبدله, وضبط هذا الواقع وخلق حالة التوازن وفقاً لخصوصياته, ومصالح بنيته أو تكويناته الفرديّة والاجتماعيّة.. فهي هنا ستتحول بالضرورة إلى ايديولوجيا منفتحة على الواقع, وخاضعة لظروفه, ومساهمة في تغيير هذه الظروف لمصحة الفرد والمجتمع.
إذاً يظل الواقع, أو ما نسميه بـ (الوجود الاجتماعي) وما يحمله هذا الوجود من بنى سياسيّة واقتصاديّة وفكريّة هو المرجع الأساس لهذه الايديولوجيا في صيغة (الوعي المطابق). ويظل أيضاً المجتمع هو صاحب القرار النهائي في تحديد مسيرة حياته في حاضرها ومستقبلها, وذلك عبر ممثليه الحقيقيين الذين يختارهم أبناء المجتمع, وليس من يفرضون عليه فرضاً باسمه من قبل قوى سياسيّة أو اجتماعية من داخل السلطة أو من خارجها.
ختاماً نقول: إن الأيديولوجيا عندما تتحول إلى (الوعي المطابق) تستطيع أن تحقق أولى مهامها, وهي خلق المواطنة والمواطن الذي يؤمن بهذه المواطنة, أي الفرد الذي ينتمي للدولة والمجتمع وليس لعقيدة دينيّة أو مذهبيّة أو عشائريّة أو قبليّة أو حزبيّة وصائيّة.
كاتب وباحث من سورية
d.owaid333d@gmail.com
ملاحظة للاستزادة في هذا الموضع, يراجع كتابنا (الأيديولوجيا والوعي المطابق). إصدار دار التكوين – دمشق- 1905 .