غزة.. الجوع في مرمى النار

بقلم: محمد صافي

لم يعد الحصول على الدقيق في غزة مسألة بقاء فقط، بل مقامرة بالحياة، والطريق إلى كيس الدقيق طريقا محفوفا بالموت، وغالبا ما يكون باتجاه واحد لا عودة منه.

قبل أيام، انضممت إلى مجموعة من الجيران في رحلة يائسة نحو ما يُعرف بـ”مركز المساعدات الأمريكية” في نيتساريم، كنا نظن أننا ذاهبون إلى مكان للإغاثة، لكننا وجدنا أنفسنا وسط فخ قاتل، الدبابات الإسرائيلية تطوق المكان، تطلق النار بشكل عشوائي، فيما كنا نتقدم بين فترات الصمت القصيرة، نركض حين يتوقف الرصاص، ونسقط أرضا حين يعود.

المئات يفترشون الأرض، ولا يُسمع سوى أنفاس متقطعة، وصوت الخوف يضرب جدران الصدور، فجأة شق الصمت صراخ أحدهم بأن البوابات فُتحت، فاندفع الناس كمن رأى الحياة أمامه، لكن الرصاص عاد أقسى وأقرب، سقط العشرات، وامتلأت الأرض بالدم والغبار، ولا أحد يسعف أحدا، فالجميع يركض بحثا عن فرصة ضئيلة للنجاة.

وحين وصلتُ إلى البوابات، صدمتني مشاهد الآلاف من الجياع يتدافعون نحو أربع منصات طعام فقط، وجوهم شاحبة، أجسادهم هزيلة، وأياديهم تمتد بيأس نحو أكياس الدقيق القليلة، للحظة تأملت المشهد أدركت أن ما يُسمى “مساعدات إنسانية” تحول إلى طُعمٍ للجوعى واليائسين.

انتهى يومي بعد ساعات من الخوف والترقب، عدت أمشي على خيط بين الحياة والموت، وصلت البيت خالي الوفاض – لكن حيًّا – بكت زوجتي حين رأتني، وأخبرتني أن عمها الذي رافقني أصيب برصاصة في صدره، وحالته حرجة في المستشفى.

في اليوم التالي، سرت بين الأسواق الخالية، لا ترى سوى المحال المغلقة، والوجوه التي أنهكها الجوع، والدقيق الذي كان يُباع بدولار، يُباع بخمسة وثلاثين، ومن يملك المال لا يجد ما يشتريه، أما من يسحب أمواله من التطبيقات البنكية، فيخسر نصفها كعمولة، كل شيء أصبح نادرًا، وكل لقمة تريدها تدفع ثمنها جزء من حياتك.

ففي غزة، من يخرج بحثا عن الدقيق، يعرف أنه قد لا يعود، وكيس الدقيق لم يعد غذاءً، بل صار فخا منصوبا وسط الدمار، والموت هنا لم يعد يأتي فقط من السماء، بل من الجوع أيضا.

هكذا تحولت المساعدات إلى مصائد، والجوع إلى سلاح، ففي غزة كل شيء يخضع لميزان البقاء،خطوة خاطئة قد تنهي حياة، وكسرة الخبز قد تُشعل رصاصة، ومع كل يوم يمر، يبدو أن الموت لم يعد حدثا استثنائيا، بل تفصيلا عاديا في حياة تُحاصرها النار من كل الجهات.