السياسي – في الوقت الذي شغلت فيه عواصم كواشنطن وتل أبيب ولندن وباريس، إلى جانب عواصم عربية، النقاش حول استبعاد الرئيس محمود عباس عن قيادة المرحلة القادمة بعد انتهاء الحرب على غزة، يبحث المجتمع الدولي والعربي عن قيادات جديدة لإدارة غزة أو الضفة الغربية، كلٌّ على حدة، في إطار رؤية تفتت الدولة الفلسطينية بين الضفة وغزة.
من وجهة نظر إدارة ترامب وحكومة نتنياهو، فإن دور الرئيس عباس لم يعد فاعلًا في حساباتهم السياسية، بينما تتركز جهودهم على شخصيات فلسطينية قد تكون قادرة على إدارة الملفات الأمنية والاقتصادية والسياسية بعد الحرب.
لكن هذه الشخصيات، بحسب مراقبين فلسطينيين، لا تحظى بإجماع وطني ولا بتأييد شعبي كما يحظى به الرئيس عباس.
يرى مراقبون فلسطينيون أن هذه الرؤية الدولية تغفل الدور الحاسم للرئيس عباس في الحفاظ على الأمن والاستقرار في الضفة الغربية، إلى جانب خطط حكومته لإعادة إعمار غزة ودعم البنية التحتية والخدمات الأساسية، والتي تُعد عنصرا أساسيا لمنع فراغ سياسي واجتماعي قد يستغله الاحتلال أو يفاقم الانقسام الداخلي.
ويؤكد محللون أن الوقت قد حان لقيام الحكومة الإسرائيلية بالجلوس مع الرئيس عباس، وإيجاد صيغة مشتركة لتفادي الانفجار القادم، عبر خارطة طريق فلسطينية تضمن الأمن والاستقرار للطرفين، وتعيد الاعتبار لحل الدولتين.
استثمار الرئيس عباس لوضع خطة جديدة تُمهِّد لإقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، مع الحفاظ على الأمن الذي تزعم إسرائيل أنه مهدد، بات اليوم حاجة إسرائيلية قبل أن يكون مطلبا فلسطينيا.
فبعد عامين من الحرب على غزة، امتلأ الشارع الفلسطيني بالاحتقان والغضب، لكن هذا الغليان يمكن أن يتراجع في حال البدء بإعمار غزة بأيدٍ فلسطينية، حتى لو جرى ذلك تحت إشراف عربي أو دولي.
الحاجة الملحة اليوم للشعب الفلسطيني هي إغاثة أهل غزة وإعادة الإعمار، لا انتظار اليوم التالي الذي تُرسم ملامحه في العواصم البعيدة.
في خضم الحديث عن اجتماعات القاهرة التي ستضم الرئيس ترامب وبعض الدول الغنية الممولة لإعمار غزة، يرى الفلسطينيون أن استبعاد الرئيس محمود عباس أو ممثلي السلطة الوطنية الفلسطينية عن تلك الاجتماعات ليس تفصيلًا عابرًا، بل استمرار لمخطط أمريكي يرمي إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق هندسة جديدة للحكومات والسلطات.
ويحذّر محللون من أن استمرار هذا النهج سيقود إلى انفجار جديد، قد لا يقتصر على الساحة الفلسطينية وحدها.
يرى محللون فلسطينيون على أن أمام الرئيس عباس فرصًا متعددة لإدارة المرحلة القادمة، عبر إعادة ترتيب القيادة الفلسطينية بطريقة تضمن الاستقرار وتوزيع الأدوار بذكاء.
فبينما يحظى الرئيس عباس بشعبية فصائلية واسعة رغم الخلافات، يُنظر إلى سلام فياض كخيار محتمل لقيادة الحكومة وإعادة بناء المؤسسات، فيما يمكن أن يشكّل محمد دحلان عنصر حماية وضبط أمني في حال توافق وطني شامل.
ويؤكد محللون أن هذا السيناريو – رغم تعقيداته – يحمل بعدًا استراتيجيًا مهمًا قد يضمن بقاء السلطة الفلسطينية متماسكة وقادرة على الصمود أمام الضغوط الإسرائيلية والدولية.
إسرائيل، ومن خلال أكثر من 1000 بوابة حديدية أقامتها بعد السابع من أكتوبر 2023، قطعت أوصال الضفة الغربية وحوّلتها إلى “كنتونات” معزولة.
فتح هذه البوابات لا يخضع لنظام محدد، بل لسياسات ميدانية تكرّس التبعية لإسرائيل.
وتشير تقارير محلية إلى وجود نشاطات اسرائيلية خفية تهدف لإنشاء “إمارات” محلية في الضفة الغربية، بإشراف عشائري واقتصادي منفصل عن السلطة الفلسطينية.
ويُحذّر مراقبون من أن هذه السياسة ستؤدي إلى تفكيك السلطة المركزية وتجريدها من صلاحياتها السيادية، ما يعمّق الانقسام ويُضعف المشروع الوطني الفلسطيني.
ورغم محاولات إسرائيل جذب الفلسطينيين عبر تحسين الخدمات مثل التعليم والصحة والغذاء، إلا أن الرفض العشائري والشعبي القاطع لأي بديل عن منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية يُفشل حتى الآن تنفيذ هذا المخطط.
شُغلت العواصم بالتفكير في اليوم التالي لغزة، لكنها غفلت عن اليوم السابق، ذلك اليوم الذي تُعاد فيه هندسة المشهد الفلسطيني وإعادة توزيع موازين القوى قبل انتهاء الحرب.
من وجهة نظر الفلسطينيين، ما يهمّهم ليس شكل اليوم التالي بقدر ما يهمّهم شكل اليوم السابق، لأن وقف إراقة الدماء في غزة ووقف التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية والتوسع الاستيطاني هو المدخل الحقيقي لأي تسوية.
وقف التمدد الاستيطاني، إزالة البوابات الحديدية، وقف المداهمات اليومية، ومنح الفلسطينيين الصلاحية الكاملة لإدارة شؤونهم، هذا هو جوهر المعادلة.
اليوم السابق، لا اليوم التالي، هو ما يجب أن يُعاد التفكير فيه قبل أن تُحسم ملامح المنطقة كلها.
في زمن تغيب فيه الرؤى الفلسطينية عن طاولات القرار الدولي، يبدو أن “اليوم السابق” وحده كفيل بإعادة ترتيب الوعي، قبل أن يُعاد رسم الجغرافيا.
-محمد العويوي