منذ أن وضعت الحرب أوزارها مؤقتًا فوق الركام، لم تنتهِ فصول المأساة في غزة، بل بدأت مرحلة أكثر غموضًا وقسوة. فالحرب التي خلّفت وراءها دمارًا هائلًا في الحجر والبشر، خلّفت أيضًا ندوبًا عميقة في النسيج الداخلي للمجتمع الغزّي، حيث تتقاطع الانقسامات السياسية مع الجراح الاجتماعية والاقتصادية، لتصنع مشهدًا أقرب إلى بركان مكتوم ينتظر الانفجار في أي لحظة. في الوقت الذي يبحث فيه الناس عن مأوى ولقمة عيش وأمان مفقود، تتناسل داخل القطاع مؤشرات اضطراب داخلي غير مسبوقة. الحديث لم يعد عن مواجهة الاحتلال فحسب، بل عن صراع صامت داخل البيت الفلسطيني نفسه، بين قوى متنافسة على النفوذ، وشارعٍ أنهكته الحروب والحصار، ولم يعد يحتمل مزيدًا من الشعارات أو الوعود.
غزة اليوم تقف على حافة الإنهاك. لا توجد عائلة إلا ودفعت ثمنًا فادحًا: فقدان الأحبة، تدمير المنازل، نزوح قاسٍ في المخيمات المؤقتة. وفي ظل هذا الخراب، تتزايد أصوات تتساءل بصوت مرتفع: إلى أين تتجه غزة؟ ومن يملك قرارها الحقيقي؟ فالأزمات المتراكمة — من انقطاع الكهرباء والوقود، إلى شحّ المساعدات وتآكل النظام الصحي — تتقاطع مع أزمة القيادة والثقة. ومع كل يوم يمر، تترسّخ قناعة في أذهان كثيرين أن الإدارة المحلية في غزة لم تعد تملك حلولًا، بل تحوّلت إلى عبء إضافي على مجتمع يختنق بين مطرقة الاحتلال وسندان الانقسام.
في الأسابيع الأخيرة، تزايدت الأحاديث عن توترات داخلية وصدامات محدودة هنا وهناك، وعن تصفيات وأزمات أمنية في بعض أحياء القطاع. ومع أن هذه الأحداث تبقى جزئية ومتفرقة، إلا أنها تُعبّر عن هشاشة الوضع الداخلي، وعن مدى الاحتقان الذي يسكن الشارع الغزّي بعد سنوات طويلة من الحصار والحروب والبطالة والفقر. هذه التوترات ليست مجرد مؤشرات عابرة، بل هي انعكاس لمعادلة سياسية مأزومة: سلطة أمر واقع في غزة تحاول تثبيت حضورها في ظل عزلة متزايدة، وسلطة رسمية في رام الله عاجزة عن فرض نفوذها أو تقديم بدائل مقنعة، ومجتمع دولي يكتفي ببيانات القلق دون أن يتدخل فعليًا لإنقاذ أكثر من مليوني إنسان من جحيم يومي.
منذ سنوات، تتبع إسرائيل سياسة “إدارة الانقسام” بدلًا من “حلّه”. فهي لا تريد انهيار غزة الكامل خوفًا من الفوضى، لكنها لا تريد تعافيها أيضًا حتى لا تتحول إلى كيان فلسطيني مستقل سياسيًا واقتصاديًا. لذلك تبقى المعادلة التي تفرضها تل أبيب واضحة: غزة الضعيفة والمنقسمة تخدم مصالحها أكثر من غزة المستقرة والمتماسكة. وعندما تتحدث بعض الأطراف الدولية عن “ترتيبات ما بعد الحرب”، فإن إسرائيل تبقي الباب مفتوحًا دون التزام، وتستخدم الحصار كأداة ضغط لإعادة تشكيل الواقع الفلسطيني على مقاسها، بحيث تبقى غزة في منطقة رمادية، معلقة بين الحياة والموت.
في المقابل، تبدو السلطة الفلسطينية وكأنها تنتظر على الهامش. لا مبادرة حقيقية لاستعادة دورها، ولا قدرة على بسط نفوذها في القطاع، لا سياسيًا ولا أمنيًا. كل ما يُتداول هو انتظار “اللحظة المناسبة” لعودة الإدارة الشرعية، لكن هذه اللحظة تبدو بعيدة المنال في ظل غياب توافق وطني شامل، ورفض محلي لأي ترتيبات مفروضة من الخارج. إن العجز عن إنهاء الانقسام، بعد أكثر من 17 عامًا على سيطرة فصيل واحد على غزة، جعل فكرة “الوحدة الوطنية” تبدو حلمًا بعيدًا. ومع كل حرب جديدة، يتكرّر المشهد ذاته: دماء ودمار، ثم عودة إلى نفس النقطة، دون رؤية مشتركة أو مشروع وطني موحّد.
منذ بداية الحرب الأخيرة، بذلت مصر جهدًا مضاعفًا لمنع سيناريو التهجير الجماعي من القطاع. كان الموقف المصري واضحًا في كل المستويات: لا لتصفية القضية الفلسطينية عبر تفريغ غزة من أهلها. ومع ذلك، تزايدت الضغوط الدولية على القاهرة لفتح المعبر أمام موجات نزوح جماعي، بحجة “الأوضاع الإنسانية الكارثية”. الحديث عن “الهجرة” الذي كان يُعدّ يومًا من المحرمات في الوعي الجمعي الفلسطيني، بات اليوم واقعًا يتسلّل إلى أحاديث الناس في الخيام والأنقاض. ليس هروبًا من الانتماء، بل بحثًا عن البقاء. كثيرون باتوا يرددون بمرارة: “الحياة هنا لم تعد ممكنة”، ليس لأنهم تخلّوا عن أرضهم، بل لأن الأرض نفسها أصبحت سجنًا مغلقًا بلا أفق.
في غزة اليوم، تتجاوز المعاناة حدود السياسة. إنها مأساة وجودية يعيشها جيل كامل. أطفال وُلدوا في الحرب، وكبروا في ظل الحصار، ولم يعرفوا يومًا حياة طبيعية. شباب فقدوا أحلامهم، ونساء يعشن على الانتظار والخوف. هذا الواقع صنع جيلًا مشوّهًا بالألم، ومجتمعًا مثقلًا بالأسئلة عن معنى الحياة والكرامة والمستقبل. المؤسسات الدولية تتحدث عن “أكبر كارثة إنسانية في القرن”، لكن تقاريرها لا تغيّر شيئًا في الميدان. فالإغاثة لا تعيد الثقة، والمساعدات لا تداوي الانقسام، والبيانات لا توقف نزيف الصراع الداخلي.
السؤال الذي يطارد الجميع اليوم هو: ما مستقبل غزة؟ هل يمكن إعادة إعمارها دون إعادة بناء نظامها السياسي؟ هل يمكن فصل الإنساني عن السياسي؟ وكيف يمكن وقف النزيف الداخلي في مجتمع أنهكته الانقسامات أكثر مما أنهكته الحروب؟ كل المؤشرات تقول إن أي حلّ مستقبلي لغزة لا يمكن أن يكون جزئيًا. فالمأزق ليس ماديًا فقط، بل هو في جوهره أزمة قيادة وثقة ومشروع. وإذا استمر هذا الواقع، فإن القطاع مهدد إما بالانفجار الداخلي أو بالانزلاق إلى سيناريوهات التهجير التي تخشاها القاهرة وتترقبها إسرائيل.
في الشارع الغزّي اليوم، يتحدث الناس بصوت خافت عن الخوف من المجهول. فبين من يريد البقاء مهما كان الثمن، ومن يفكر بالرحيل كخلاص مؤلم، يضيع صوت الأغلبية التي لا تريد سوى حياة طبيعية تحفظ الكرامة والأمان. لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن غزة لم تعد كما كانت. الحرب الأخيرة لم تغيّر الخرائط فقط، بل غيّرت الوعي أيضًا. فالكثير من الناس لم يعودوا يؤمنون بالشعارات القديمة، بل يبحثون عن منطق جديد للحياة داخل هذا الحصار الطويل.
غزة اليوم تقف على مفترق تاريخي، لا يشبه أي مرحلة سابقة. بين الانقسام الداخلي وضغوط الخارج، بين الانكسار والأمل، وبين البقاء والرحيل. مأزقها ليس قدَرًا محتومًا، لكنه نتيجة سنوات من الحسابات الخاطئة والتجاذبات الداخلية التي جعلت الدم الفلسطيني يُسال بأيدي الفلسطينيين أحيانًا، ويُستثمر سياسيًا من قبل الآخرين دائمًا. وما لم تُستعد الثقة بين الناس والقيادات، وما لم تُوضع رؤية وطنية شاملة تضع مصلحة الإنسان أولًا، فإن غزة ستبقى عالقة في دائرة الألم ذاتها، يتبدل فيها لون الركام، لكن المأساة تبقى كما هي.