نحو نهضة الوعي: حين تنتصر القيم الإيجابية على ثقافة القبح والانغلاق:

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

في زمنٍ تتناسل فيه الأزمات من رحم العادات المتحجّرة، ويُختطف فيه الإنسان العربي بين مطرقة السلطة وسندان المقدّس المزيّف، تبرز الحاجة إلى إعادة بناء الوعي الإيجابي كفعل مقاومة حضارية. ليست المعركة اليوم بين الشرق والغرب، ولا بين الدين والحداثة، بل بين العقل الحيّ والعقل المقولب، بين من يؤمن بالحياة والتنوّع والحوار، ومن يقدّس الجمود والطاعة والخضوع.
لقد أدرك إدوارد سعيد أن «المثقف الحقيقي هو من يزرع في الناس الشكّ الخلّاق لا الإيمان الأعمى»، كما رأى نيتشه أن «الحياة لا تُحتمل إلا بالخلق، والخلق لا يكون إلا بنفي القطيع». وبين هذين القولين تنفتح فسحة الأمل في أن نعيد صياغة علاقتنا بالعقل والجمال والآخر، لنواجه سلبية مجتمعٍ أنهكته الكراهية والازدواجية والخوف من الحرية.
أولاً: وعيٌ مضادّ للجمود — الحرية كجوهر للإنسان
الحرية ليست شعاراً سياسياً، بل حالة وعي وجودي، تُعيد للإنسان قدرته على التفكير والاختيار. في مجتمعاتٍ أدمنت الطاعة، يصبح التفكير جريمة، والاختلاف خطيئة. ومع ذلك، يبقى الأمل في من يشعلون الشموع بدل لعن العتمة.
قال إيمانويل كانط: “التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه.” ونحن لا نحتاج أكثر من هذه الجملة لنعرف أن تحررنا يبدأ من الداخل.
إنّ مواجهة ثقافة الخضوع تبدأ بترسيخ قيم المساءلة والنقد والحوار، لأن المجتمع الذي لا يُراجع ذاته يُعيد إنتاج أزماته جيلاً بعد جيل. علينا أن نستبدل منطق «الممنوع» بمنطق «الممكن»، وأن نربّي أبناءنا على سؤال “لماذا” قبل أن نحشو عقولهم بـ”افعل ولا تفعل”.
ثانياً: الجمال والفن كفعل تحرّر من القبح.
حين تبهت القيم وتُدفن الأحلام تحت ركام الفتاوى والخطب، يصبح الفنّ والفكر الجميل أسمى وسائل المقاومة. فكما قال ألبير كامو: “الفنّ هو الطريقة الوحيدة كي لا نموت من الحقيقة.”
إنّ مجتمعاً بلا فنّ هو مجتمع بلا إبداع، بلا ذاكرة ولا أفق. فالفنّ ليس ترفاً، بل هو لغة الإنسان في مواجهة التوحّش والابتذال. لذلك، فإن إعادة الاعتبار للفنّ والموسيقى والمسرح والفلسفة، هو ترميمٌ لروح الأمة، لا تهديد لهويتها كما يروّج دعاة التحريم.
إنّ تعليم الأطفال كيف يصغون إلى مقطوعة موسيقية أو كيف يتأملون لوحة، هو عمل وطني وأخلاقي في آن، لأنه يغرس فيهم حسّ التوازن والجمال والتسامح، وهي القيم التي تفتقدها مجتمعاتنا المأزومة.
–ثالثاً: التعليم النقديّ لا التلقين — العقل فوق النقل.

لقد آن الأوان أن نعيد النظر في منظومتنا التعليمية التي تنتج حافظين لا مفكرين، ومقلّدين لا مبدعين. فكما نبّه جون ديوي: “التعليم ليس استعداداً للحياة، بل هو الحياة ذاتها.”
إنّ تعليم النقد والتحليل والتجريب هو ما يصنع مواطناً فاعلاً، بينما الحفظ الأعمى يصنع تابعاً ذليلاً.
التعليم الإيجابي هو الذي يُعلّم كيف نفكّر لا ماذا نفكّر، يربّي على الشكّ البنّاء لا التسليم الأعمى، ويجعل العقل مرجعاً أعلى لا خادماً للخرافة. وحين نحترم الطفل كموجودٍ حرّ، نكون قد وضعنا أول حجر في بناء مجتمعٍ يليق بالكرامة الإنسانية.
–رابعاً: الأخلاق الحقيقية لا الأخلاق المزيفة.
إنّ مجتمعاتنا غارقة في الازدواجية الأخلاقية: نُدين الفساد في العلن ونمارسه في السرّ، نرفع شعارات الدين ولا نطبّق جوهره، نُقدّس الطقوس وننسى الإنسان.
يرى سقراط أن الأخلاق ليست طاعةً خارجية بل “معرفة بالنفس”، وأن الفضيلة تولد من الإدراك لا من الخوف. لذا فإن مواجهة النفاق تبدأ من تحرير الأخلاق من سلطة الخوف وإعادتها إلى أصلها الإنساني: الصدق، العدالة، العطاء.
الإيجابية هنا ليست وعظاً بل موقفاً حضارياً؛ فكل سلوك صادق يواجه نفاقاً، وكل محبة تواجه كراهية، وكل عدلٍ يواجه ظلمًا، هو خطوة في طريق النهضة.
–خامساً: الحوار والتسامح أساس المدنية.
الحضارة لا تقوم على الانغلاق بل على الاعتراف بالاختلاف. حين نكفّ عن رؤية المختلف كعدوّ، نكون قد خطونا أول خطوة نحو التحضّر. فكما يقول الفيلسوف بول ريكور: “الغيرية هي الشرط الأخلاقي الأول للوجود.”
علينا أن نعيد للتسامح معناه الإيجابي: ليس التنازل عن القناعات، بل الاعتراف بحق الآخر في امتلاك قناعاته.
في مجتمعاتنا التي تعاني من الطائفية والعنصرية، يصبح التسامح فعلاً ثورياً، لأنه يعيد للإنسان مكانته فوق الانتماءات الضيّقة، ويعيد تعريف الدين كرسالة رحمة لا كمنظومة إقصاء.
–سادساً: القيم الإيجابية كقوة بناء — من الإنسان إلى الدولة.
إنّ أيّ مشروع نهضوي يبدأ من احترام كرامة الإنسان، لا من تمجيد الشعارات. فاحترام حق الحياة والحرية والعدالة ليس ترفاً، بل هو أساس الاستقرار السياسي والاجتماعي.
حين تُبنى الدولة على العدالة، يتصالح المواطن مع وطنه. وحين تُصان الحريات الفردية، تُصان كرامة المجتمع كله.
لقد قال طه حسين ذات مرة: “الحرية حق مقدس، ولكنها أيضاً عبء ثقيل لا ينهض به إلا من أعدّ نفسه له.”
من هنا فإن الإيجابية ليست تفاؤلاً ساذجاً، بل قدرة على الفعل رغم القبح، إيمان بأن الإنسان قادر على التغيير، متى أُتيح له أن يفكّر ويعبّر ويحبّ دون خوف.
—خاتمة
لن ننهض ما دمنا نحيا بعقولٍ مستعارة وضمائر مؤجّلة. فالتغيير لا يبدأ من القوانين، بل من الإنسان الذي يُعيد اكتشاف ذاته بوصفه قيمة لا أداة.
إنّ مجتمعاتنا العربية تحتاج اليوم إلى ثورة داخلية صامتة، لا تُسفك فيها الدماء بل تُسفك فيها الأوهام.
ثورة تبدأ من إعادة تعريف الجمال، والحرية، والعقل، والإنسان.
علّموا أبناءكم أن للحياة وجوهاً كثيرة، وأن الحقيقة ليست حكراً على أحد، وأن الفنّ والفكر والحبّ ليست كماليات، بل شروط الوجود الإنساني السويّ.
فحين نزرع الإيجابية الواعية في تربةٍ طالها الملح، ستخضرّ يوماً ما أرض العرب من جديد، وتعود الإنسانية عنواناً لكلّ وطنٍ يليق بالإنسان.