منذ عودة سكان مدينة غزة وشمالها على منازلهم، أو بالأحرى إلى أنقاضها، بعد بدء سريان وقف إطلاق النار، كان الأمر صادما ومحزنا، فالشوارع التي كانت تعج بالحياة هناك صارت صامتة، والمنازل التي كانت مأوى للعائلات المكلومة تحولت إلى رماد وحطام، حتى أن المدارس والمستشفيات، باتت بحاجة إلى إعادة بناء من جديد فالدمار فيها هائل ومخيف، ليبقى السؤال الأكبر والأهم والذي يتبادر لكل فلسطيني عاش تحت جحيم الإبادة، هل كان الأمر يستحق كل هذا الدمار؟
صحيح أنه ليس الوقت المناسب لبحث الخسائر والمكاسب، لكن الأمر بات ملحا، فأغلبية الشعب الفلسطيني وخصوصا أهالي قطاع غزة تنبع فرحتهم بانتهاء الحرب هو وقف المقتلة ونجاتهم من هذا الجنون، فالفرحة هنا مختزلة فقط بأنهم نجو من الموت، لكن أليس كان من الممكن تجنب هذا الدمار وهذه المذبحة لولا المكابرة التي مارسها قادة حماس خلال العامين الماضيين.
إن المشهد صادم جدا في غزة اليوم، أطفال بلا مدارس، عائلات بلا مأوى، ومستشفيات تعمل بأقصى طاقتها وسط نقص حاد في الأدوية والمعدات، تكلفة العناد أو “الغباء” السياسي ليست مجرد خسارة استراتيجية، بل خسارة إنسانية لا يمكن تقديرها، فلا إنجاز وطني تحقق، ولا أي أفق للمستقبل.
إن توقيع اتفاق وقف الحرب في غزة بعد عامين من حرب إبادة يثبت للجميع أن سياسة المعاندة والمكابرة التي انتهجتها حماس على حساب التهدئة والمرونة ليست مجرد خطأ تكتيكي، بل قرار تحمله المدنيون من دمائهم وبيوتهم وحياتهم، إن إعادة بناء غزة لن يكون مهمة سهلة، ولكن الأهم من ذلك هو إعادة التفكير في أساليب التفاوض، وإعطاء الأولوية لحياة الناس قبل أي شعار سياسي.
التجربة الأخيرة تفتح الباب أمام نقاشات معمّقة حول جدوى هذه الحرب وتكاليفها البشرية والمادية، وبينما يعبّر البعض عن ارتياحهم لوقف التصعيد العسكري، يتساءل كثيرون عما إذا كانت المكاسب التي تحققت “إن وجدت” تستحق الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب الفلسطيني.
هذا الوضع يثير تساؤلات مشروعة حول جدوى التصعيد العسكري، خاصة عندما تكون الخسائر الفلسطينية فادحة مقارنة بالإنجازات السياسية أو الميدانية، فهل كانت هذه الحرب ضرورة أم أن الخيارات الدبلوماسية أو الشعبية كانت قادرة على تحقيق نتائج مماثلة بأقل كلفة؟
وعلى الرغم من التضحيات الجسيمة، يروّج البعض أن الحرب ساهمت في تحقيق بعض المكاسب، مثل إعادة القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام الدولي، والإفراج عن الأسرى، لكن في ظل غياب تغيير ملموس في الواقع السياسي أو الميداني، تبقى هذه المكاسب رمزية إلى حد كبير، خاصة مع استمرار الاحتلال في سياساته التوسعية.
وفي ظل هذه المعطيات، تتعالى الأصوات المطالبة بإعادة النظر في الاستراتيجيات النضالية الفلسطينية، فيرى البعض أن الاعتماد على العمل العسكري وحده لا يكفي لتحقيق الأهداف الوطنية، بل يجب أن يترافق مع جهود دبلوماسية وميدانية مدروسة، كما يتطلب الأمر توحيد الصف الفلسطيني وإنهاء الانقسام الداخلي، الذي يضعف الجبهة الفلسطينية ويجعلها عرضة للابتزاز.
ولعل الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه “فقه الجهاد” قد أجاب عن سؤالنا الأبرز عندما قال إنه “ليس من الحكمة ولا الصواب أن ندخل مع العدو معركة فناء وإبادة، إذا كانت القوى غير متكافئة ولا متقاربة، وهذا من واقعية هذه الشريعة”.
وهنا تناقض كبير بين ما ورد في كتاب فقيههم ومفتيهم الأعلى وبين ما حدث في “طوفان الأقصى” فإذا كان هذا شيخهم وفقيههم، فهل من مجيب على سؤال أين الفقه في دخول معركة كانت نتيجتها هي مسح غزة عن الخارطة ؟
صحيح أن الحرب انتهت، لكن العواقب مستمرة، وما لم تتغير العقلية السياسية، فإن ثمن الصراع لن يقف عند الدمار الحالي، بل سيستمر في التأثير على أجيال قادمة.