مجددا يهمني التأكيد، أن السياسة فن وابداع، وقدرة عالية على المناورة وإدارة الصراع، وتدوير الزوايا وفق الشروط الذاتية والموضوعية في اللحظة السياسية المحددة، وارتباطا بقراءة موازين القوى المحلية والقومية والإقليمية والدولية، ولا يكفي وضع البرنامج والشعار السياسي الاستراتيجي والتمسك به على مدار محطات الصراع مع الأعداء، فكل محطة تحتاج الى صياغة اهداف تكتيكية تتناسب مع محدداتها، ويشتق فيها شعاراتها المرحلية المرتبطة بالشعار الاستراتيجي، وقد تشهد المراحل المتعاقبة من النضال الوطني او الطبقي الاجتماعي المد والجزر وفق طبيعة الصراع والتقدير العلمي للعوامل كافة في كل مرحلة، دون تغييب الشعار الاستراتيجي الناظم لعملية التحرر، حيث تبقى حماية الشعب وأهدافه السياسية والاجتماعية بوصلة الكفاح لأي قيادة سياسية، ويخطئ من يعتقد، أن خط النضال البياني يسير في نسق مستقيم او صاعد، ففي بعض المراحل تفرض الضرورة التراجع النسبي، وتقديم تنازلات مرحلية بهدف التقدم لاحقا خطوتان للأمام، بتعبير دقيق الخط البياني يكون عادة متعرج صعودا وهبوطا وصولا للهدف النهائي.
وإذا أخذنا المحطة الحالية على مسار قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، محطة الإبادة الجماعية الإسرائيلية الأميركية على الشعب الفلسطيني التي أكملت عامان كاملان من أخطر أعوام وعقود الصراع الممتد على نحو ثمانية عقود متواصلة حيث شهدت أبشع وأفظع تاريخ الصراع من الوحشية والتطهير العرقي والابادة الكارثية، مع انخراط إسرائيل وقوى الغرب الامبريالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ضد الشعب الأعزل في فلسطين عموما وقطاع غزة خصوصا، رغم التضامن العالمي الأوسع مع القضية والشعب والمشروع الوطني، الا أن تغول الإدارات الأميركية السابقة والحالية وجهل وتخلف او تواطأ القوى الفلسطينية التي قدمت الذرائع لإسرائيل لانفلات نازيتها من القيود وقوانين وقرارات الشرعية الدولية، وعدم التقاطها من بداية الحرب الأشد هولا اللحظة المناسبة لقطع الطريق على العدو الإسرائيلي ونزع ذرائعه الوهمية والكاذبة، وعدم تدخل القوى العربية والدولية في فرض القرارات الدولية، وفرض استحقاقات وقف الحرب والذهاب لجادة السلام وتكريس خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967، مما سمح لإسرائيل الذهاب لأبعد مديات الهمجية والابادة الجماعية على الشعب والمصالح والحقوق الفلسطينية.
وبعد الموافقة الفلسطينية الرسمية والفصائلية والدول الشقيقة والعالم على خطة الرئيس دونالد ترمب في 13 تشرين أول/ أكتوبر الحالي (2025)، تداولت قوى المعارضة العديد من الأسئلة حول طبيعة الخطة الأميركية الإسرائيلية المليئة بالنواقص والمثالب، كيف ولماذا تم الموافقة عليها؟ وهل الخطة استجابت للحد الأدنى من الاهداف الوطنية، أم انها غيبتها ولم تشر من قريب أو بعيد لها؟ وما هو مستقبل النضال الوطني في ظل التطورات والمالات التي وصلت اليها؟ وكيف يمكن الخروج من نفق تلك الصفقة الملغومة؟ وأين الضفة الفلسطينية والربط بينها وبين قطاع غزة؟ وأين خيار حل الدولتين منها؟ وأليست الاتفاقية عنوانا لمواصلة الإبادة بأشكال وأساليب أخرى؟ ولماذا القبول بالوصاية الدولية وخاصة الأميركية ومجلس سلامها برئاسة الرئيس الأميركي وفريقه الذي لم يحدد حتى الان، الذي لن يخرج عن التركيبة الأميركية؟ وغيرها من الأسئلة المشروعة بغض النظر عن التوافق معها، أو الاختلاف عليها.
مؤكد ان الموافقة على خطة الرئيس ال 47 كانت ممرا اجباريا للجميع، ولم يكن بالإمكان رفضها وإدارة الظهر لها في ظل موازين القوى الوطنية والعربية والإقليمية والدولية، ومع موافقة العالم عليها، بيد انها استجابت في نقاطها الأولى للأهداف الوطنية الملحة من حيث: وقف الحرب الهمجية على الشعب، ووقف التهجير القسري، وعودة النازحين من جنوب القطاع الى شماله، وإدخال المساعدات الإنسانية كافة، ووضع خطة تنمية اقتصادية مالية لإعادة اعمار ما دمرته الإبادة الجماعية طيلة العامين الماضيين، وتسلم إدارة فلسطينية مؤقتة لإدارة شؤون المواطنين الكارثية، وترميم أوضاعهم الإنسانية كافة، وتثبيت الناس على أرض وطنهم الام فلسطين، كخطوة ضرورية لتولي منظمة التحرير والدولة الفلسطينية وحكومتها مسؤولياتها السياسية والقانونية والإدارية والأمنية في قطاع غزة، وربطه بالضفة الغربية بما فيها القدس العاصمة الأبدية لفلسطين.
رغم أن الخطة اسقطت البند ال21 الوارد فيها، الذي تم الاتفاق عليه مع الزعماء العرب والمسلمين مع الرئيس الأميركي، الا ان بنيامين نتنياهو تمكن من حذفها، أثناء مداولاته مع كل من ستيف ويتكوف وجارد كوشنير عشية لقائه مع الرئيس ترمب. لكن هذا الشطب لها ليس قدرا، وغير ملزم للقيادة الفلسطينية. كما ان الوصاية الدولية مرفوضة جملة وتفصيلا من قبلها، وستعمل مع الاشقاء العرب والدول الإسلامية والدول الداعمة لخيار حل الدولتين بقيادة فرنسا والسعودية المتمسكة بالحل السياسي ووقف الى جانبها 142 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لن تتراجع عن موقفها، وستواصل العمل لتحقيق الهدف السياسي عبر وضع ثقلها السياسي والديبلوماسي والقانوني والاقتصادي وصولا له.
ومجددا يبرز سؤال هام، هل موازين القوى كافة تسمح بغير ما تم الاتفاق عليه، كخطوة ضرورة واستراتيجية للشعب الفلسطيني؟ ذاتيا وموضوعيا موازين القوي تميل بشكل عميق لصالح الأعداء، ومع ذلك، كان الهدف الأهم ومازال وقف الإبادة الجماعية على الشعب وحمايته من التطهير العرقي والفناء والاندثار وإعادة الاعمار، وحماية القضية والكيانية الفلسطينية والمشروع الوطني، ولإدراك القيادة ان سيرورة الصراع ستشهد تحولات إيجابية لصالح الشعب الفلسطيني، وستدفع بأهداف ومصالح الشعب قدما مع القوى المختلفة الى الامام نحو ما يصبو اليه في المستقبل.
وتفرض الضرورة التأكيد، انه لا يمكن الرهان على الولايات المتحدة أو دولة إسرائيل اللقيطة والنازية لثانية واحدة، وأعود استحضر مقولة الرئيس المصري الراحل حسني مبارك ومفادها “اللي متغطي بأميركا عريان” والمتغطي بإسرائيل غبي وساذج ولا يفقه أكثر من ارنبة اذنه. ولكن الصراع يحتاج الى المناورة التكتيكية وإدارة الصراع بما يخدم الأهداف الوطنية.
