يُعاد إنتاج السردية الدولية ذاتها منذ عقود، حين يُسأل الفلسطيني عن “دولةٍ فلسطينيةٍ قابلةٍ للحياة بجانب إسرائيل آمنة”، وكأنّ القضية تدور حول كيفية جعل فلسطين ممكنة، لا حول ضرورة مساءلة كيانٍ استعماريٍّ أُقيم على الاغتصاب والعنصرية والإبادة. في جوهر هذا الخطاب تكمن المفارقة الكبرى: من الذي يحتاج إلى “قابليةٍ للحياة”؟ الدولةُ المحتلّةُ أم الأرضُ المحتلّة؟
إنّ منطق “حلّ الدولتين” كما صاغه النظام الدولي، يقوم على تثبيت واقع القوة لا على إنصاف الحق والتاريخ.
فإسرائيل، التي تُقدَّم ككيانٍ “ديمقراطيٍّ وآمن”، لا يمكن أن تكون قابلةً للحياة ما دامت تمارس الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري ، وجودها مرهونٌ باستمرار العدوان، وهي دولةٌ توسعيةٌ عنصرية احلالية لا تعرف حدودًا ولا تقبل بجارٍ سياديٍّ مستقلّ. في المقابل، فلسطين هي الحقيقة الثابتة، الجغرافيا الأصلية، والهوية التي لم تنقطع رغم قرنٍ من محاولات المحو والاقتلاع.
قابلية فلسطين للحياة ليست مشروعًا سياسيًا مؤقتًا، ولا وعدًا مشروطًا بمفاوضاتٍ لا تنتهي، بل هي حقٌّ طبيعيٌّ ووجوديٌّ متجذر في الذاكرة والإنسان والتاريخ ، إنها قابلةٌ للحياة لأنها هي الحياة نفسها، بينما إسرائيل ، بصيغتها الصهيونية الإحلالية ، هي نفيٌ للحياة واغتصابٌ لمعناها.
إنّ استمرار العالم في ترديد هذه المعادلة المقلوبة ليس سوى شكلٍ من أشكال التواطؤ مع الباطل، وامتدادٍ لمنظومة الظلم التي رعت الكيان وأجهضت ولادة الدولة الفلسطينية الطبيعية.
آن الأوان لقلب السردية رأسًا على عقب:
فالسؤال الحقيقي ليس هل يمكن أن تقوم دولةٌ فلسطينيةٌ بجانب إسرائيل ، قابلة للحياة ؟
بل هل يمكن لإسرائيل أن تبقى قائمةً ما دامت ترفض العدالة وتعيش على أنقاض فلسطين؟
تلك هي الإشكالية المركبة والمغيّبة التي تختصر مأساة العالم، وعجزه عن رؤية الحقيقة البسيطة: فلسطين قابلةٌ للحياة، أمّا إسرائيل فليست كذلك إلا بقدر ما يُراد للعالم أن يظلّ أعمى عن جوهر الجريمة الكامن في انشائها وادامة وجودها .
د. عبدالرحيم جاموس
الرياض / السبت
18/10/2025 م
