الحوارات الفكرية والمنتديات المعرفية والثقافية… إلى أين؟

بقلم: عماد خالد رحمة_ برلين.

حفلت حياتنا الفكرية والثقافية والمعرفية بحضورٍ واسعٍ على الساحة العربية والعالمية. فقد شاركتُ، من خلال اهتمامي وسعيي الدؤوب نحو الأفضل، في العديد من المؤتمرات والندوات الفكرية والمنتديات الثقافية، بخاصة تلك التي تبحث في قضايا حقوق الإنسان، ورعاية الأقليات وإنصافها، والتمكين للديمقراطية، وتحرير المرأة العربية.

غير أنّ السمة العامة لمعظم تلك الفعاليات أنّ تأثيرها ينتهي بانتهاء عقدها، أو بعده بقليل. وكلّ هذا، ومعه قضايا كثيرة أخرى، يدفعنا نحن معشر الكتّاب والمثقفين والصحافيين إلى التصدّي لحقيقة هذه الظاهرة السلبية، دون مواربة أو تعميمٍ مخلّ. ومن هنا أجد لزاماً عليّ أن أتطرّق بشيءٍ من التفصيل في هذا الشأن، وأقدّم بعض الملاحظات التي أراها من وجهة نظري متناسبةً مع الموضوع.

ففي كثيرٍ من الأحيان تُعقَد لقاءاتٌ وندواتٌ تفتقر إلى وجود المتخصّصين في المجال الذي تُناقش قضاياه، وتغلب عليها العمومية التي تشمل معظم الفعاليات المشاركة فيها. وتتردّد خلالها عباراتٌ طنانةٌ رنّانة، تمتزج بمديحٍ مبالغٍ فيه لشخصٍ ما، دون الوصول إلى حلولٍ عقلانيةٍ ومنطقيةٍ للمشكلة المطروحة، رغم أنّ تشخيصها وشرحها يتمّ بتفصيلٍ مملّ. ويعود ذلك إلى أنّ معظم الحاضرين في تلك الورش الفكرية والمنتديات المتنوّعة لا يكونون من المتخصّصين فيما يُطرح أمامهم.

غالباً ما تكون حالة الاستعراض سيدة الموقف، فتُطرح قضايا هامشية لا تمسّ صلب الموضوع، وهكذا تنتهي اللقاءات دون الوصول إلى حلٍّ نهائي. ثمّ يُعاد إنتاجها في وسائل الإعلام، وتُتلى على المنابر السياسية، الخاصة والعامة، أمام الجمهور، وكأنّ الحلّ بات قريباً… لكنه لا يأتي أبداً. فاللقاء، في جوهره، لم يكن أكثر من حوارٍ شكليّ، بينما نحن نحتاج إلى إيجاد حلولٍ عمليةٍ واقعية للقضايا التي تتناولها تلك المنتديات الفكرية من وقتٍ إلى آخر.

من هنا، أدعو إلى أن تُعقد اللقاءات على شكل طاولاتٍ مستديرةٍ مغلقة، يشارك فيها المختصّون، بخاصة من الشباب الذين يبحثون في عمق الموضوعات المطروحة. كما ينبغي أن تتمتّع هذه المنتديات بحريةٍ فكريةٍ حقيقية، وبحرية التعبير واتخاذ المواقف والآراء في إطار الاعتراف بالآخر وبحقّه في إبداء أفكاره. غير أنّ ما يحدث في الغالب هو العكس، إذ تبقى الآراء حبيسة الهامش المسموح به، وتتجاوز أحياناً ذلك لتتحوّل إلى سلسلةٍ من النفاق السياسي الرخيص، تُمارس لإرضاء أشخاصٍ بعينهم، وتنتهي بإصدار بيانٍ ختاميٍّ مصاغٍ بلغةٍ مقعّرةٍ تُرضي أولي الأمر، دون أن تُسهم في حلّ المشكلة أو معالجتها معالجةً صحيحة.

لقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن حقوق الإنسان، والاهتمام برعاية الأقليات وحمايتها، والتمكين للديمقراطية، وتحرير المرأة من القيود والعوائق التي تواجهها. وهنا أجدني أطالبُ، وبقوة، بأن تُتاح هوامشُ أوسع لحرية التفكير وإعمال العقل، خصوصاً في القضايا المتصلة باستشراف المستقبل وما يحمله لنا. فالدراساتُ الاستباقية باتت ضرورةً مُلحّة، لأنّ المستقبل يطلّ علينا من خلال الحاضر الذي نعيشه، ولأنّ إيقاع الحياة وتسارعها يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، حاملاً في طيّاته مفاجآتٍ يصعب التنبّؤ بها.

لذلك، فإنّ مناقشة البحوث العلمية، ومراكز الدراسات المتخصّصة بمستقبل الإنسان وحياته في مختلف المجالات، أصبحت أمراً ضرورياً لا ينبغي تجاوزه أو إهماله. ومن هنا وجب علينا انتقاء العناصر الفاعلة في كلّ ندوةٍ أو ورشةٍ فكرية، بحيث تضمّ المتخصّصين الذين يدركون طبيعة العصر، ويتفهمون التحديات المحيطة بالإنسان والمجتمع، ويدركون المخاطر المقبلة في قضايا أساسية مثل: فشل تطبيق الديمقراطية، وتلوث البيئة، وتغير المناخ، وأزمات العالم الرأسمالي، فضلاً عن نقص الطاقة النظيفة وندرة المياه، والصراعات الحادّة القائمة حولها.

إنّ العالم الذي نعيش فيه معرّضٌ للمخاطر باستمرار، والمستقبل يبدو قاسياً وغامضاً، وكلّ ما نراه ينذر بحدوث صراعاتٍ ومشكلاتٍ لا حدود لها. وقد كشفت جائحة كوفيد-19 (كورونا) عن هشاشة البنى العالمية، ونشرت الخوف في قلوب البشر في كلّ أصقاع الأرض. وأُصيب الوطن، وتعرّضت الوطنية لضرباتٍ موجعة، وخسر العالم خسائر فادحة لا يمكن تعويضها بسهولة.

من هنا ندرك لماذا نحن قلقون من المستقبل ومن قابل الأيام، لأنّنا ببساطة لا نعرف ما يُخبّئه لنا وللبشرية جمعاء. لذا، نحن مطالبون بتكريس الأبحاث والدراسات المتخصّصة، وتفعيل ورش العمل حمايةً للأجيال القادمة، من خلال الاعتراف الصريح بالمشكلات القائمة والأزمات المتفاقمة والتداعيات المحتملة لها.

ومن هذه الرؤية يمكننا أن نقرّر أنّ وطننا العربي ينبغي أن يستجمع قواه من جديد، وأن ينهض كالعنقاء من رماده، ويمنح البحث العلمي ما يستحقّه من اهتمامٍ ورعاية، إلى جانب نهضةٍ تعليميةٍ وتثقيفيةٍ عصريةٍ مبنيةٍ على أسسٍ متينة.