القدوة المفقودة وصعود التفاهة: من إشعاع الفكر إلى زمن الرويبضة

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين*

في زمنٍ كانت فيه القدوةُ مشعلًا يُضيء دروب الوعي، وملاذًا أخلاقيًا يقي الأجيال من التيه، كانت المجتمعاتُ تَحيا بضميرٍ حيٍّ، يتجلّى في رموزها الكبرى من العلماء والمفكرين والمصلحين. غير أنّ هذا الضمير الجمعيّ أصيب اليوم بتصدّعٍ عميق؛ إذ تقدَّم إلى الواجهة الرويبضة – كما وصفهم الحديث النبوي الشريف – ليحتلّوا مكان الصدارة، ويقدّموا صورًا زائفة للقدوة، تُغذّيها ثقافةُ الاستعراض والسطحية والتفاهة، وتُدار بمنطق السوق لا بمنطق الفكر.
لم تعرف المجتمعات البشرية في تاريخها مرحلةً خلت من رموزٍ كبرى شكّلت وعيها وضميرها الحيّ، وأضاءت للناس سُبل المعنى والالتزام. فقد كان حضور القدوة الفكرية أو الدينية أو السياسية علامةً على حيوية الأمة وفاعليتها. غير أنّ واقعنا العربي المعاصر يشهد انقلابًا خطيرًا على هذا الإرث؛ إذ تقدّم إلى الواجهة الرويبضة ليتحكّموا في مصائر الجماهير، ويشكّلوا صورًا زائفة للقدوة، تحرّكها المصالح الضيّقة، وتغذّيها ثقافة الاستهلاك والسطحية.
إنّ الإشكال لم يعد محصورًا في تغييب العلماء والمفكرين الأحرار بفعل القبضة الأمنية أو الإقصاء السياسي، بل تجاوزه إلى صناعة نماذج بديلة، تتمثّل في “المتثاقفين” و“المتفيقهين” ونجوم الإعلام والرياضة والرقص المبتذل؛ أولئك الذين لا يحملون مشروعًا فكريًا أو أخلاقيًا أو وطنيًا، بل يكرّسون قيم السوق والعولمة المعلّبة، ويروّجون لأنماطٍ من الحياة الفردية الغارقة في الأنانية والتفاهة.
لقد نبّه ابن خلدون في مقدمته إلى أنّ الأمم إذا فقدت قدوتها الراشدة دخلت في طور الانحطاط، فيما شدّد علي شريعتي على أنّ غياب “المعلّم القدوة” يحوّل الأمة إلى قطيعٍ بلا بوصلة. وفي السياق العربي الحديث، رأى محمد عابد الجابري أنّ أزمة النهضة العربية مرتبطة بفقدان “العقل الموجّه”، بينما حذّر عبد الرحمن الكواكبي من صعود “المتسلّط الجاهل” الذي يملأ الفراغ حين تغيب العقول النيّرة.
من هنا تبرز خطورة المرحلة: فحين تتوارى الأصوات الفكرية النقدية، ويُحاصر المثقف الحرّ، تنفتح الساحة أمام الرويبضة ليتسيّدوا، فتتحوّل القدوة من ملهمٍ وطنيّ أو مفكّرٍ إصلاحيّ إلى مهرّجٍ شعبويّ أو واعظٍ متكسبٍ أو بطلٍ لحظيٍّ من ورق. إنها أزمة ليست أخلاقية فحسب، بل أزمة وجودية بنيوية تعكس مأزق أمةٍ تبحث عن ضوءٍ في زمن العتمة.
لم تتغيّر قناعات الأجيال الجديدة من أبناء أمتنا العربية كثيرًا؛ إذ ما زالت تُبدي ثقةً مفرطة بالمفاهيم والمعاني التي ورثتها عن محيطها الاجتماعي والديني. وقد استمرّت هذه الثقة المطلقة لعقودٍ، بل لقرونٍ، دون مراجعةٍ عقلية أو نقدٍ منطقي لهذا الموروث. فنتاج الفقهاء والمدّعين والمسؤولين والرويبضة ظلّ مقبولًا عند تلك الأجيال، يُعدّ ملزمًا وصحيحًا، بل وأقرب إلى تحقيق سلام الناس ورغد عيشهم.
لقد تجلّت هذه الظاهرة في تاريخنا العربي عبر المكانة المؤثرة التي احتلّها كبار الفقهاء والعلماء المسلمين، من أمثال مالك بن أنس، وأبي حنيفة النعمان، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل، وجعفر الصادق. وبعد أن أُزيح المنهج الديني من مكانة الصدارة في الحياة الحديثة، بفعل وهج الحضارة الغربية وصعود الفلسفات والعلوم الطبيعية والاجتماعية، حلّ محلّ هؤلاء القادة الدينيين فلاسفةٌ ومفكّرون وعلماء، من أمثال جان جاك روسو، وليو تولستوي، وكارل ماركس، وألبرت أينشتاين، وسيغموند فرويد، وبرتراند راسل، وجان بول سارتر، وتشي غيفارا، وأنطونيو غرامشي.
أما في العالم العربي، فقد برزت أسماء مثل الشيخ محمد عبده، وطه حسين، ومحمد عابد الجابري، وميشيل عفلق، وحسن البنا، وجبران خليل جبران، وغيرهم كثير ممن شكّلوا ركائز فكرية وثقافية امتدّ تأثيرها عبر الأجيال.
يعلّمنا التاريخ أنّ كلّ جيلٍ لا يخلو من رموزٍ اعتبرها مصدر إشعاعٍ فكريٍّ أو ثقافيٍّ أو معرفيٍّ أو نضاليٍّ. وقد مثّلت هذه الرموز دائمًا ضمير المرحلة وأفقها الممكن، رغم أنّ بعضهم سقط في أخطاءٍ جسيمة، أو انزلق نحو الانتهازية والوصولية وخيانة الأمانة الفكرية. ومع ذلك، تبقى ظاهرة القدوة قائمة، بوصفها حاجةً إنسانيةً ونفسيةً واجتماعيةً أصيلة، لا يمكن أن تخلو منها حياة البشر.
من هذا السياق، يمكننا طرح سؤالٍ جوهريٍّ: ما هي صفات وأشكال القدوة في حياة الشباب العربي اليوم؟
هل هم حقًا قادة الفكر والاكتشاف والنضال المبدئي؟ أم أنهم رموزٌ مصنوعةٌ من ضوءٍ زائفٍ جاؤوا من عوالم الاستعراض والشهرة؟
وهل لهذا التحوّل في معايير القدوة نتائجُ كارثيةٌ على وعي الأمة ومستقبلها؟
لقد كوَّن النظام الفني والإعلامي، بكل ثقله المادي والرمزي، ثقافةً عولميةً مُعلَّبةً تُعيد تشكيل الوعي الجمعي وفق مقاييس السوق لا مقاييس الفكر. إذ تحوّل الفن إلى سلعة، والمشاهير إلى أدواتٍ لتصريف الأنماط الاستهلاكية، وغدا الإعلام مَصنعًا لإنتاج الوهم وتلميع الرداءة وتسويقها على أنها ذوقٌ عامٌّ وحداثة.
بهذا المعنى، لم تعد القدوة تُولد من رحم الفكرة أو الموقف أو التضحية، بل من كاميراٍ تُعيد تدوير الصورة حتى تغدو بديلاً عن الحقيقة. صار المعيار الجديد هو الظهور لا الجوهر، والضجيج لا القيمة، وبهذا تكرّست سلطة الرويبضة في أبهى صورها: سلطة من لا فكر له، لكنها قادرة على احتلال المخيلة الجماعية عبر بريق الصورة وسحر الشاشة.
إننا نعيش اليوم لحظة انهيار المعايير الكبرى، حيث يُستبدل المفكر بالمؤثّر، والعالم بالمُعلّق، والمناضل بالمهرّج، في عمليةٍ معكوسةٍ تفرغ القيم من معناها، وتحوّل الوعي الجمعي إلى استعراضٍ دائمٍ للسطحية. ومع ذلك، يبقى الأمل في أن تستعيد الأمة وعيها، وأن تنبثق من بين الركام أصواتٌ صادقة تؤمن بأن الفكر لا يموت، وأنّ القدوة الحقة لا تُصنع في الاستوديوهات، بل تُنحت في ميادين الموقف والمعرفة والضمير.

 

* عماد خالد رحمة – كاتب ومفكر عربي مقيم في برلين، يهتم بقضايا النهضة، والفكر النقدي، والعلاقة بين الوعي الجمعي والتحوّلات الثقافية في العالم العربي. يكتب بلغة تحليلية تتقاطع فيها الفلسفة مع الاجتماع والفكر الإنساني، باحثًا عن جذور الأزمات الحضارية وآفاق التغيير الممكن.