تحليل سياسي قانوني حول مسودة “صك الانتداب الدولي الجديد على قطاع غزة (GITA)”

بقلم : د. عبد الرحيم جاموس

تستند هذه القراءة التحليلية إلى النص العربي الكامل لمسودة صك الانتداب الدولي الجديد على قطاع غزة (GITA)، الذي أعدّه معهد توني بلير للتغيير العالمي ونشرته صحيفة هآرتس العبرية، وقد قامت بترجمته إلى العربية الدكتورة غانية ملحيس. ويهدف هذا التحليل إلى تفكيك الدلالات السياسية والقانونية الكامنة وراء هذه الوثيقة، وقراءة أهدافها ومخاطرها في ضوء ما يجري في الإقليم والقضية الفلسطينية.
إن هذه الوثيقة تمثل محاولة جديدة لإعادة صياغة مفهوم “الوصاية الدولية” على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بلبوسٍ قانوني وإنساني، لكنها في جوهرها تُعيد إنتاج منطق “الانتداب” الذي مارسته القوى الاستعمارية في بدايات القرن العشرين. فهي تُحاول شرعنة إدارة أجنبية متعددة الأطراف، تُمارس السيادة الفعلية على الإقليم تحت ذريعة إعادة الإعمار وإرساء الاستقرار، بينما يُجرَّد الفلسطينيون من حقهم في تقرير مصيرهم الفعلي.
الوثيقة لا تتحدث عن “دولة فلسطينية” ذات سيادة، بل عن “كيانٍ مُدارٍ دوليًا” تُشرف عليه هيئة حاكمة تسمى “سلطة غزة الانتقالية (GITA)”، ذات طابع إداري مؤقت، لكنها تمتلك كامل أدوات السيطرة الاقتصادية والأمنية والقانونية، في حين تُركت للقوى الفلسطينية أدوار رمزية أو استشارية، تخلو من أي مضمون سيادي حقيقي.
تُصوّر المسودة الوضع القائم في غزة وكأنه نتيجة فراغ في الحكم أو انهيار للسلطة، لا كنتيجة مباشرة للاحتلال الإسرائيلي وسياساته، وهو ما يُبرّر – وفق منطقها – “التدخل الدولي المنظم” لإدارة القطاع. وبهذا تُعاد صياغة الرواية التاريخية للصراع، لتصبح غزة ساحة “إدارة أزمة إنسانية”، لا جزءًا من قضية وطنية تحررية.
من خلال القراءة الدقيقة للوثيقة، يمكن استنتاج أن الهدف الاستراتيجي منها يتجاوز إعادة الإعمار أو ضبط الأمن، ليطال البنية الديموغرافية والسياسية للمجتمع الفلسطيني، فهي تتضمن تصورات لإعادة التوطين، وإعادة توزيع السلطة، وربط الاقتصاد المحلي بمصادر تمويل وشراكات خارجية تُكرّس التبعية. كما تفتح الباب أمام مشاركة شركات أمنية دولية وقوى إقليمية في حفظ “النظام”، بما يُضعف أي إمكانية لاستعادة القرار الوطني المستقل.
في البعد القانوني، تُعد الوثيقة التفافًا على قواعد القانون الدولي التي تقرّ بحق الشعوب في تقرير مصيرها تحت الاحتلال ، فبدلًا من محاسبة إسرائيل على جرائم الحرب والحصار، يجري تحويل القضية إلى ملف “إدارة مدنية وإنسانية”، يُفرّغ الصراع من محتواه التحرري. إنها صيغة “إدارة ما بعد الحرب” التي تُهيئ الأرضية لتكريس واقع الانفصال السياسي والجغرافي بين غزة والضفة، بما يخدم استراتيجية تفكيك الكيان الوطني الفلسطيني.
أما في الجانب السياسي، فالمسودة تعكس توافقًا ضمنيًا بين أطراف غربية وإقليمية على تحويل غزة إلى نموذج اختبارٍ لحوكمةٍ دولية جديدة في الشرق الأوسط، حيث تُدار الأزمات عبر مؤسسات تكنوقراطية ذات طابع إنساني، لكنها خاضعة لمراكز القرار الغربية. وتستند هذه الرؤية إلى فلسفة “الإصلاح من الخارج”، التي أثبتت التجارب فشلها في العراق وأفغانستان ولبنان، لأنها تتجاهل العامل الوطني وتُهمّش الإرادة الشعبية.
إن ما يُسمّى “صك الانتداب الجديد” ليس مشروعًا مؤقتًا لإغاثة غزة، بل محاولة لإعادة هندسة الواقع الفلسطيني سياسيًا وديموغرافيًا، وفصل القطاع عن عمقه الوطني، فهو يشرعن الوصاية الدولية، ويُمهّد لتثبيت الاحتلال بطريقة أكثر مرونة وشرعية شكلية، تحت غطاء القانون الدولي الإنساني.
ختامًا، تُظهر هذه الوثيقة أن ما يجري ليس مجرد إدارة أزمة، بل إعادة تعريفٍ لمفهوم السيادة الفلسطينية، وإعادة توزيعٍ للأدوار بين الاحتلال والمجتمع الدولي على حساب الشعب الفلسطيني. ومن هنا، فإن مواجهة هذه الرؤية تستدعي تحركًا فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا منسقًا، في الميادين السياسية والقانونية والدبلوماسية، لرفض أي شكل من أشكال الوصاية أو الانتداب المقنّع، والتأكيد على أن الحل العادل والوحيد هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي بكل مظاهره، وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة سيادته الكاملة على أرضه، وفقًا للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.
د. عبدالرحيم جاموس
الرياض / الإربعاء
22/10/2025 م