تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة، التي وصف فيها هجوم نتنياهو على دولة قطر بأنه “خطأ تكتيكي فادح”، وحذّره من المضي في ضمّ الضفة الغربية، ليست مجرد انفعالٍ عابر أو خلافٍ تكتيكي بين حليفين قديمين، بل تعكس بداية تحولٍ جوهري في الرؤية الأميركية لطبيعة العلاقة مع إسرائيل ولدور الأخيرة في النظام الإقليمي الجديد الذي تسعى واشنطن إلى تشكيله منذ مطلع العام 2025.
فترامب الذي قال بوضوح إنّ “ضمّ الضفة الغربية لن يحدث لأنني وعدتُ الدول العربية بذلك، وإسرائيل ستفقد الدعم الأميركي إن فعلت ذلك”، لم يكن يخاطب نتنياهو وحده، بل كان يوجّه رسالة استراتيجية مزدوجة: الأولى إلى الداخل الأميركي الذي بدأ يتململ من كلفة الانحياز المطلق لإسرائيل في ظلّ التراجع الدولي لمكانة واشنطن، والثانية إلى حلفائه العرب الذين طالبوه بتصحيح المسار وإعادة الاعتبار للشرعية الدولية كأساس لأي سلامٍ عادلٍ ومستقر.
وجاءت تصريحات نائبه جاي دي فانس لتؤكد هذا المنحى الجديد حين شدّد على ضرورة “حلٍّ عادلٍ ودائمٍ يضمن الحقوق الفلسطينية ويحفظ استقرار الشرق الأوسط”، مشيرًا إلى أن “التوسع الإسرائيلي المستمرّ يُقوِّض المصالح الأميركية ذاتها”. بهذا، بدا أن الإدارة الأميركية الجديدة بدأت تدرك أن الانحياز الأعمى لإسرائيل لم يعد يخدم استراتيجيتها الكونية، بل يعرّضها لعزلةٍ متزايدة ويضعف قدرتها على إدارة التحالفات في العالمين العربي والإسلامي.
ردود الفعل الإسرائيلية كانت غاضبة وقلقة في آنٍ واحد، إذ شعر نتنياهو وحكومته اليمينية أن الخطاب الأميركي هذه المرة لا يكتفي بالنصح بل يقترب من الإنذار السياسي الصريح، خصوصًا في ضوء التلميحات إلى إمكانية مراجعة الدعم المالي والعسكري في حال استمرار السياسات الاستيطانية أو التوسعية.
بينما تلقّت الأوساط الفلسطينية هذه التطورات بترحيبٍ حذر، معتبرةً أن أي تحوّلٍ في الموقف الأميركي يمكن أن يفتح نافذةً لإحياء المسار السياسي المتوقف منذ سنوات، شريطة أن يقترن بخطواتٍ ملموسة تفرض على إسرائيل الالتزام بقرارات الشرعية الدولية ووقف مشاريع الضمّ والتهجير والحصار.
أما الموقف العربي، فقد جاء داعمًا لهذه اللغة الجديدة، ليس فقط لأنها تعيد الاعتبار للقانون الدولي، بل لأنها تعكس إدراكًا متبادلًا بين واشنطن والعواصم العربية بأن إسرائيل تحوّلت من عامل استقرار إلى مصدر توترٍ مزمن، وأن كبح اندفاعها نحو التوسع ضرورة لحماية توازنات المنطقة ومنع انفجارٍ إقليميٍّ شامل.
وفي الإطار الدولي الأوسع، وجدت أوروبا والأمم المتحدة في خطاب ترامب وفانس فرصة لإعادة إحياء مسار الحل السياسي على أساس إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران 1967، وفق قرارات مجلس الأمن ومبادئ القانون الدولي، بما يعيد التوازن إلى النظام العالمي الذي تصدّع بفعل الحروب والاحتلالات والازدواجية في المعايير.
إنّ جوهر التحول الأميركي الراهن لا يكمن فقط في نبرة التصريحات، بل في المنظور الاستراتيجي الذي بدأت الإدارة الجديدة تتبناه: فإسرائيل لم تعد ورقةً رابحة في يد واشنطن بقدر ما أصبحت عبئًا على صورتها ومصالحها في العالم.
لذلك، فإن ترامب يحاول إعادة تعريف الدور الإسرائيلي، من “الوكيل الحارس للمصالح الأميركية” إلى “الحليف المقيَّد بسقف القانون الدولي”، وهو ما يشكّل إن استمرّ انقلابًا في مفهوم “الوظيفة” التي أُنيطت بإسرائيل منذ قيامها.
لكن، هل يمكن الوثوق بهذا التحوّل؟
الجواب مرتبط بمدى استعداد واشنطن لترجمة أقوالها إلى أفعالٍ تضبط سلوك إسرائيل وتعيد إطلاق عملية سلامٍ جادةٍ تستند إلى العدالة والقرارات الدولية.
فالعالم اليوم يدرك أن الأمن في الشرق الأوسط لن يتحقق دون إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة سيادته الكاملة على أرضه، وأن استمرار سياسة التوسع والقتل والتجويع لن تجلب سوى مزيدٍ من الفوضى والدمار.
إنّ تحذير ترامب العلني لنتنياهو قد يكون أول اختبارٍ حقيقيٍّ لإرادة الولايات المتحدة في ردع إسرائيل عن المضي في مشروعها الاستعماري، وفي الوقت ذاته، مؤشرًا على بداية مرحلة جديدة من إعادة تعريف التحالفات والمصالح في المنطقة.
وإذا ما تحوّلت هذه المواقف إلى سياسةٍ ثابتة، فإنها قد تُمهّد لعودة الشرعية الدولية إلى مركز الفعل، ولإحياء الأمل الفلسطيني والعربي بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على ترابها الوطني وعاصمتها القدس الشرقية، باعتبارها السبيل الوحيد لتحقيق سلامٍ عادلٍ ودائمٍ يضع حدًّا لقرنٍ من الدم والاحتلال.
د. عبدالرحيم جاموس






