ممّا لاشك فيه أنّ لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة ووقف الحرب أثرًا كبيراً على منطقة الشرق الأوسط؛ لأنّ الكثير من الدول العربية والإسلامية تتذرّع وتزعم أنّ فلسطين هي قضيتها الأولى، كما هو الحال مع كل من إيران وتركيا، حيث تتّخذ أدواتٍ وأذرعَ لها لتحقيق أهدافها في الهيمنة؛ فإيران تستخدم حماس في فلسطين، وتستخدم جماعة الحوثيين في اليمن للتحكّم في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، كما تستخدم حزب الله في الجنوب اللبناني للضغط على إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك لتمرير اتفاق نووي جديد. وتستخدم كذلك الحشد الشعبي في العراق، للتضييق على القواعد الأمريكية هناك والهيمنة على قرار الحكومة العراقية.
إنّ اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، الذي فرضه ترامب على حماس والحكومة الإسرائيلية، يسحب الحجّة والذريعة من إيران وأذرعها في شنّ الهجمات ضدّ إسرائيل بحجّة مساندة القضية الفلسطينية، والأمر ذاته ينطبق على حزب العدالة والتنمية الذي يتزعّمه رجب طيب أردوغان، حيث يستخدم الفصائل الجهادية الموالية له في سوريا، بما فيها حكومة الشرع المؤقّتة، كما يستخدم بقايا الفصائل الجهادية المتطرّفة، بما فيها تنظيم داعش؛ فتركيا عينها على الغاز السوري في الساحل، وعلى البادية حيث حقول النفط الكثيرة، خاصة حقل العمر والحقول المجاورة الأخرى؛ الرغبة التركية الدفينة تعود إلى “الاتفاق الملّي” الذي يقوم على احتلال حلب والموصل وكركوك، بما فيها مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، وتركيا تخشى الفكر التحرّري للقائد أوجلان الذي يؤدّي إلى حرية الشعوب في كلتا الدولتَين الإقليميتَين؛ وهو ما يعني إفشال مشاريع الدولتَين للهيمنة الاستعمارية، كما تسعى تركيا، ومن خلال مخطّطاتها التي ذكرناها في سوريا، للخلاص من أزماتها الاقتصادية وأزماتها الداخلية والقانونية والدستورية مع عموم المعارضة التركية.
ومن أهم بنود الاتفاق حسب وثيقة ترامب كما وردت في المواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام الإسرائيلية:
يعلن الرئيس الأمريكي ترامب انتهاء الحرب في غزة، وتوافق الأطراف على تنفيذ الخطوات اللازمة لتحقيق ذلك.
إنهاء الحرب فوراً بعد موافقة الحكومة الإسرائيلية، وتوقّف جميع العمليات العسكرية، بما فيها القصف المدفعي والجوي، ويتمّ تعليق المراقبة الجوية في المناطق التي انسحب منها الجيش الإسرائيلي.
البدء فوراً بإدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية بشكل كامل، بما يتوافق مع اتفاق 19يناير 2025م.
تنسحب قوات الجيش الإسرائيلي إلى الخطوط المتَّفَق عليها وفق خطوط الانسحاب المتّفق عليها، ولن تعود القوات الإسرائيلية إلى المناطق التي انسحبت منها طالما تنفّذ حماس بنود الاتفاق وتلتزم بها.
الإفراج عن جميع الرهائن الإسرائيليين، والجثث المحتجَزة، خلال 72 ساعة عن طريق الصليب الأحمر الدولي.
6- تشكيل قوة عمل من ممثّلي الولايات المتحدة وقطر ومصر وتركيا ودول أخرى، يتّفق عليها الطرفان، لمتابعة تنفيذ الاتفاق مع الجانبَين والتنسيق معهما.
جدير بالذكر أنّ الكثير من البنود جاءت عائمة وتحتاج إلى الكثير من التفاصيل الدقيقة التي قد لا تكون في الحسبان، ولكنّها تطرأ في سياق الأحداث الجارية، وهي التي تثير الكثير من العقبات؛ الأمر الذي يحتاج إلى قوة عظمى مثل الولايات المتحدة لتفرضها على الجانبَين، كما يحتاج لمشاركة دول عربية وإسلامية.
الاتفاق وأبرز أحداثه:
ذكرنا أنّ الاتفاق ضمّ حوالي 20 بندًا، أبرزها المرحلة الأولى التي شملت تسليم الرهائن العشرين، وانسحابًا إسرائيليًا تدريجيًا، وإدخال المساعدات الإنسانية يومياً بما لا يقلّ عن 600شاحنة تضمّ المواد الغذائية والأدوية والمياه والخيم المؤقّتة لإيواء النازحين، ولكن حتى المرحلة الأولى تعثّرت بسبب حماس التي لا تزال تماطل في تسليم جثث الرهائن المتوفّين، وترتّب على ذلك موقف إسرائيلي تجلّى في عدم الالتزام بفتح معبر رفح أمام الفلسطينيين من المرضى للذهاب إلى مصر، ثمّ العودة، كما ضيّقت على دخول المساعدات الإنسانية وأخذت تتأهّب لمواجهة حماس، التي قامت بإعدامات ميدانية لبعض العائلات من مدينة غزة بحجّة التعامل مع إسرائيل واتّهمتهم بالخيانة دون اللجوء إلى القضاء أو المحاكم؛ الأمر الذي أثار استهجان المراقبين والمتابعين لأحداث غزة، ويبدو أنّ حماس قد فسّرت بنود الاتفاق بما يتوافق ورؤيتها السياسية، وكان ينبغي أن تكون خارج المشهد السياسي والعسكري في غزة، وأن تسلّم أسلحتها للجنة دولية أو عربية أو فلسطينية، ولكن الرئيس الأمريكي – حسب زعمه – تمهّل في ذلك لتسدّ حماس الفراغ وتساهم في استباب الأمن ريثما تقوم القوة الدولية والشرطة الفلسطينية المدرّبة والمخوّلة من الدول العربية والإسلامية وغيرها بتولّي مهامها، وبالرغم من الإعدامات التي قامت بها حماس، فقد صرّح الرئيس الأمريكي ترامب بأنّ حماس إذا لم تتوقّف فسوف نقوم بقتلهم، وسط مراقبة إسرائيل ومتابعتها للخروقات التي ترتكبها حماس، والجدير بالذكر أنّ هنالك فصائل مسلحة صغيرة أخرى في غزة كانت تستولي على المساعدات الإنسانية بالقوة، كما أنّ هذه الفصائل المذكورة تدخل في صراعات داخلية مسلحة فيما بينها، وحتى في صراعات مع حماس نفسها، ويُخشى من الفوضى وحرب أهلية قادمة قبل استتباب الأمن ودخول القوى الدولية حسب الاتفاق، فالضوء الأخضر الأمريكي ومن ثم الإسرائيلي هو الأرجح، وباتفاق الجانبَين الأمريكي والإسرائيلي؛ لتكون حماس والفصائل المسلّحة الأخرى بمثابة مسمار في نعش الدولة الفلسطينية القادمة، أي أنّ حماس والفصائل الأخرى سوف تبعث على الفوضى وتؤخّر تحقيق سلام دائم وشامل في فلسطين والشرق الأوسط، وسوف تؤخّر عقد الاتفاقيات الإبراهيمية مع السعودية والدول العربية الأخرى.
بعض ملامح التغيير في الشرق الأوسط:
هذا الاتفاق الموقَّع في شرم الشيخ هو اتفاق أمريكي بامتياز، فرضته الولايات المتحدة الأمريكية دون مصادقة من مجلس الأمن الدولي ودون رعاية من الأمم المتحدة رغم حضور دول هامة في الاتحاد الأوربي، ولم تتمّ دعوة سوريا إلى شرم الشيخ ولم تحضر توقيع الاتفاق، رغم حدودها الشمالية المباشرة مع إسرائيل، وكانت ستصفّق للحضور والاتفاق، كما يُلاحَظ أنّ إيران أيضاً لم تحضر توقيع الاتفاق رغم دعوتها من قبل جمهورية مصر العربية، ولعل إشارات التغيير التي يمكن ملاحظتها تتجلّى فيما يلي:
1- توقّف الهجمات الحوثية ضدّ إسرائيلّ، بل يمكن القول أنّها أبدت ارتياحاً ضمنياً بأنّها تخلّصت من عبء مساندة القضية الفلسطينية وإرضاء مشغّليها.
2- وقف الحرب في غزة سوف يخفّف من الهجمات الحوثية في البحر الأحمر؛ لزوال ذريعة الدول المعادية لفلسطين مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا، ويجعل البحر الأحمر أكثر يسراً أمام ناقلات الدول المذكورة.
3- عائدات مصر في قناة السويس التي تفضي إلى البحر الأحمر، سوف ترتفع إلى الضعف، وقد تبلغ حولي 6مليارات من الدولار، وسوف تتدخّل أمريكا لصالحها في تسوية سد النهضة على نهر النيل في أثيوبيا.
4- سوف تضعف الأذرع الإيرانية، حزب الله في لبنان وحماس في غزة، إن لم نقل أنّها في طور العجز عن القيام بالدور العسكري أو السياسي.
5- أبدت إيران موافقتها – مرغمةً – على اتفاق غزة الذي فرضه ترامب، بل ترك ترامب الباب موارباً أمام إيران للوصول إلى اتفاق نووي جديد، بل دعاها للانخراط في الاتفاقات الإبراهيمية.
6- حضور رجب طيب أردوغان توقيع اتفاق غزة يشير إلى أنّ تشغيل الفصائل المرتزقة بات من الماضي، ولا مجال سوى للسلام، وعليه استغلال مبادرة السلام للقائد أوجلان للنهوض بتركيا وشعوبها.
7- بروز السعودية ودول الخليج كمناطق ازدهار وقوة اقتصادية كبيرة بسبب الجنوح للسلام والاستقرار والتنمية المستدامة.
8- وقف الحرب في غزة يعيد السكان إلى مناطقهم، ويفسح المجال لإعادة الإعمار، والتفرّغ للعلم والتنمية والاستقرار والسلام، ورفض كل أشكال الحروب والتدمير، والابتعاد عن التطرّف واستغلال الدين سياسياً.
9- بروز إسرائيل كدولة إقليمية قوية وضاربة لأعدائها في كل مكان، وكان آخرها استهداف قيادات حماس في قطر، وكذلك القيادات الحوثية في صنعاء.
10- بروز دور وأهمية قوات سوريا الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط وسوريا، كقوة ضامنة للسلام، وكقوة ديمقراطية ووطنية وراعية لكل المكوّنات والأديان، بل صارت مثالاً يُحتذى به إقليمياً ودولياً.
11- تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية صارت تخطف الأبصار على الصعيد الدولي والإقليمي، وسوف تكون خير مثال يُحتذى به في جميع مناطق الشرق الأوسط، وكل مزاعم أردوغان وبهجلي إلى الزوال؛ حيث لا مستقبل إلّا للسلام والديمقراطية.
المصدر: https://www.nrls.net/?p=6189





