كثيرا ما نستخدم مفهوم الأمر الواقع في شتى مجالات حياتنا لا سيما فيما يتعلق بفلسطيننا المحتلة، وسلوكنا السياسي والميداني والثقافي والدبلوماسي… خلال صراعنا غير التقليدي مع هذا الاحتلال. فلا خلاص من مراعاته. والسؤال هنا: هل نستوعب هذا المفهوم جيدا؟ هل نفهم ما يفرضه علينا ويتطلب منا للحفاظ على قدراتنا للاستمرار في المواجهة، والتمسك بها بعدم الذهاب لفقدها طوعا؟ هل نستطيع بدون قوانا الذاتية الاستفادة من أي قوى وظروف خارجية مهما كانت جادة وصادقة؟.
لو أخذنا ما يجري في فلسطيننا، وغزتنا بالتحديد، منذ ما بات يسمى بِ “السابع من أكتوبر”، مثالا لمحاولة معرفة مدى استيعاب بعض القوى للأمر الواقع، وبالتالي ما يصح فعله ولا يصح، هل سنجد دليلا على فهمهم لواقع قضيتنا المعقد أو على استيعابهم لأن الجوهر في قصتنا لا يكمن فيما يجب أو نحب القيام به بل فيما يمكننا ويحفظ وجودنا السياسي وقدراتنا الذاتية بحسب المعطيات الأمر الواقع؟.
فما هي دوافعهم للاعتقاد بأن الواقع سيكون لصالح شعبنا وقضيتنا، هل في ثقتهم بطبيعة “رد فعل” الإحتلال التي عودهم عليها منذ 2007؟ أم بإمكانية تغيير الرسمية العربية لسلوكها الثابت منذ 1948 – على الأقل – لأي سبب، ولو كان شلالات الدماء وتدمير مدن بأكملها؟ أم في اعتقادهم بأن العالم سيمتلك فهما أفضل للقضية الفلسطينية – كأنه لا يفعل – وبالتالي يتخذ موقفا حازما ضد الاحتلال لدرجة انهائه عن حدود 1967 على الأقل؟ أم في مراهنتهم على الرأي العام العالمي الذي استهزؤوا به في الأمس القريب، والذي لم تحركه سوى أنهار الدماء والأشلاء والدمار غير المعقول… والذي لا يراعونه بإعداماتهم الميدانية مثلا؟ أم بالمراهنة على حلفاء لا يستطيعون حماية أنفسهم ولا حتى الظهور في بلدانهم إلا من وراء حجاب؟ أو على حال أبناء شعبنا الذين أنهكهم الإحتلال – كما يقتلهم ويقتل كل مقومات حياتهم وصمودهم الآن – منذ 2007 متذرعا بهم؟ فعلى أي أساس أُتِخذ ذلك القرار بالضبط؟
من ناحية أخرى، ألا يجب أن تكون الخطوة الأولى نحو العمل على تغيير الواقع الفاسد، بعد استيعابه، إلى آخر أفضل ولو قليلا، العمل على ألا تخدم النتائج أي مسار عكسي والعودة للوراء، والحرص على عدم التضحية بمنجزات ومكتسبات نملكها أصلا؟ فماذا يفهمون عن تداعيات أفعالهم على شعبنا في كل الأرض المحتلة؟ هل حاولوا تأمين حتى الخبز والماء لأبناء شعبهم قبل عمليتهم الغريبة؟ ماذا في خطتهم عن الوقوف في وجه حلم وسياسة الاحتلال بتهجير شعبنا، خلال العدوان وبعده، بدءا من غزتنا، غير إغلاق مصر لمعبر رفح، مصر التي يهاجمونها كلما سنحت لهم فرصة، وتظاهروا ضدها في قلب الاحتلال وبرعايته؟
هل يجوز التستر بتبريرات واهية مثل أن أهلنا في غزتنا “كانوا أحياءا أمواتا أساسا” !، وأن “الاحتلال كان سيفعل ما يفعل بصرف النظر عن الحجة والذريعة” !. هل يصح تمسكهم بالسؤال غير المنطقي: “إلى متى إذا ؟!”؟. ألا يفهمون معنى الإحتلال، وطبيعة وظروف الإحتلال الصهيوني بالذات، وتاريخ صراعنا المتشعب والمعقد، وأن الأمر ليس بسيطا فنعالجه “بحبة دواء نشتريها من الصيدلية”؟!. وبعيدا عن الخوض في سطحية تبريراتهم، اسأل: ما الذي تحقق وسيكون في المستقبل أفضل يا ترى؟
فيا أبنا شعبي، إذا لم نستوعب طبيعة هذا الإحتلال، والواقع بكل تفاصيله، وتاريخنا القريب والبعيد، ولم نُقَيِم ظروفنا وقوانا الذاتية وأهدافنا القريبة والبعيدة كما ينبغي، لن نستيطع التقدم، وسندمر قاعدة نكران الأنا، والحفاظ على الذات، شعبا وأفرادا. ومن المفيد أن نفهم أن الأمر الواقع مفروض علينا وعلى غيرنا، وليس كما يظن هؤلاء أنه أمر هامشي يمكننا تعديله وحدنا، بإقناع الشعب بالقدرة على التغلب عليه ببضعة شعارات ومساعدات.
فمن لا يضع الأمر الواقع على رأس محددات قرارته قبل اتخاذها، لن يستطيع اضافة جديد مفيد ولا الحفاظ على منجزات تحققت ولا على خطوات مقطوعة، بل سيكون معولا للهدم ومقوضا للذات. فما رأيكم، مثلا، فيمن يحاول إقناع نفسه والشعب بأننا أقوى من الإحتلال وبأن الأمر يتوقف على قرار المواجهة المفتوحة، وأن كل التضحيات والأنفس والمقدرات… ليست إلا “ضريبة للتحرير” و”أضراراً جانبية”؟!
يا أبناء شعبي، لا تنظروا للأمر الواقع من خلال هؤلاء بل بعيونكم، وعلى أساس أن واجبنا هو محاولة التحسين فيه للحفاظ على قدراتنا للاستمرار بواجبنا الوطني والديني والقومي والإنساني والأخلاقي… نحو أنفسنا وشعبنا ووطننا المحتل، ففهمه واستيعابه ليس حكرا على من يدعي امتلاك الفهم الكامل ولا الحصانة الدينية وغيرها.
وهو، الأمر الواقع، ما يجب أن نراعيه لا العكس، وإلا سنتراجع للوراء، ونساهم في تدمير قضيتنا وأنفسنا، كما يجري في غزتنا. وهو ما لا يمكن تغطيته بأي حملات تضليل وإرهاب فكري مهما بلغت كثافتها. فالأمر الواقع كالشمس لا يمكن تغطيتها أو تجاهلها، ومن يحاول أن يفعل سيحترق ويحرق كل شيء.
علاء أبو النادي
05 \ جمادى الأولى \ 1447 للهجرة
27 \ 10 \ 2025 م








