باسل الخليل – روائي وناقد أدبي من سوريا مدينة حلب, مواليد 1971 – يحمل شهادة هندسة كهربائيّة من جامعة حلب – صدر له رواية: (لوحة تحت الرماد) والثانية (طوق النار). لا زالت مخطوطا. وله عملان مسرحيان لا زالا مخطوطين – يكتب النقد المسرحي – نال عام 2024 شهادة تقديريّة على قراءاته النقدية لجميع عروض المهرجان المسرحي المقام في حلب – يكتب القصة القصيرة جداً – عضو جمعيّة العاديات في حلب – وعضو مؤسس في منتدى الكواكبي للحوار الثقافي في حلب .
البنية الحكائيّة أو السرديّة للرواية:
في الأزمات التي تمر بها المجتمعات والدول, وخاصة الأزمات الداخليّة التي تخلفها السلطات المستبدة في دولها الشموليّة بما تمارسه على مواطنيها, من قهر وظلم وفقر وغربة وتشيء, والأهم تسلطها على الشعب وإقصائه عن دوره التاريخي في بناء الفرد والدولة والمجتمع, نجد أن هذه الأزمة تبدأ بالتصاعد حتى تصل إلى حرب أهليّة بين مكونات المجتمع, وأهم أطرافها هنا, القوى الحاكمة التي غالباً ما تتكئ على مرجعيات تقليديّة دينيّة طائفيّة أو سياسيّة حزبيّة تدعي العلمانيّة, لكنها منخورة من الداخل ببعد طائفي أو قبلي فاقع لا تستطيع القوى الحاكمة إخفاءه بكل ما تدعيه دساتيرها وإعلامها وسياساتها الداخليّة والخارجيّة.
إن رواية (لوحة تحت الرماد) تأتي في هذا السياق, لدولة ومجتمع مأزومين, هما الدولة السورية والمجتمع السوري. فكل مفردات بنية هذا الرواية تتحدث عن أزمة دولة صنعتها قوى حاكمة طائفيّة سخرت سلطة الدولة لمصلحتها لعشرات السنين, وحكمت باسم حزب علماني همشته هذه الطبقة الحاكمة وسخرته لمصلحتها واستمرارها بالسلطة, والنتيجة صراع داخلي بين مكونات المجتمع الأساسيّة, أدت إلى حمل السلاح للتعبير عن المصالح الأنانيّة الضيقة, وكيفيّة الدفاع عنها فكانت شهوة الدم أهم تجلياتها.
لقد استطاع الأديب الروائي “باسل خليل”, وهو من أبناء مدينة (حلب), المدينة الأهم في سوريا بعد العاصمة دمشق, بل هي المدينة التي تشكل الخزان الاقتصادي لسوريا من جهة, وهي المدينة التي عانت كثيراً في هذه الأزمة من جهة أخرى, أن يسلط الضوء على الكثير مما عاناه أبناء مدينة حلب كما سيمر معنا في عرضنا للبنية الحكائية للرواية.
تقوم البنية الحكائيّة للرواية على عرض شخصيات نالت منها الأزمة السورية, فمنها من ظل متمسكا بقيمه النبيلة فكان كالماسك على جمرة من نار, ومنها من فقد توازنه وسار بطرق ملتوية بحثاً عن شهوة المال والجنس, ومنهم من تقبل مصيره برضى أو مجبراً وراح يؤقلم نفسه مع ما يحيط به من مآسي.. الخ.
إن الرواية تتحدث عن مهندس معماري (نبيل) يحمل قيماً نبيلة على اسمه, أبا أن تلوثه الأزمة كما لوثت غيره من أصدقائه في دائرة العمل كالمهندس “سليمان” الذي راح يقبل الرشاوى من المتعهدين, وعندما حاز على النقود هرب إلى خارج القطر, أما “نبيل” فقد هُمش ووضع في قبو الأرشيف, وفقد الكثير من امتيازاته الماديّة والمعنويّة, فاضطر أن يعمل بعد الدوام سائق تكسي أجرة, عند مالك لهذا التكسي الذي راح يسخر منه بدوره كما سخر منه المسؤول عنه في الدائرة, وكذلك زوجته “نوال” الموظفة في أحد البنوك, والتي كانت تلومه على قيمه النبيلة, وتذكره دائما بصديقه “سليمان” والرفاهية التي يعيش فيها وأسرته.
أما “سمر” فهي الابنة الوحيدة كأنثى لـ (نبيل ونوال), الطالبة في كليّة الحقوق, والتي تربطها بزميل لها في الجامعة علاقة حب صادقة هو “فادي” ابن صاحب المطبعة التي تدمرت وسُرقت بسبب الحرب, فطلبت منه زوجته أن يعمل بائع خضروات شأنه شأن الفنان التشكيلي الذي فقد الكثير من موارده فحل به الفقر وراح بدوره يبيع خضروات لتأمين لقمة عيشه.
يقع منزل “نبيل” في حي (الجابرية), حيث كان نقطة مواجهة مع المعارضة, أصابته قذيفة فأتلفت جزءاً منه, ولكون المنزل في نقطة مواجهة, اضطر أن يستأجر منزلاً في حي (محطة بغداد). وللمصادفة أن هذا المنزل كانت فيه لوحة قديمة تالفة, أراد “نبيل تغييرها بلوحة جديدة, وعند شروعه بإنزال اللوحة القديمة, وجد صندوقا مليئاً بالليرات الذهبيّة في حفرة داخل الجدار قد غُطيت باللوحة. وهنا يدور حوار طويل بين “نبيل وزوجته نوال”, حول الليرات الذهبية, فنبيل يريد إبلاغ أبي (مروان) صاحب المكتب العقاري عن صندوق الذهب, كي يرجعه إلى ابن صاحب البيت المستأجر الذي مات مع زوجته في حادث تسرب غاز, و”نوال” ترفض فكرته معتبرة أن هذا حق أسرتها وهي هديّة لهم من الله.
فكانت النتيجة من هذا الصراع بين الزوجين, أن تقوم “نوال” بسرقة الذهب, دون علم زوجها وبيعه, وعندما عرف زوجها “نبيل” بالسرقة, طلب منها إرجاع الذهب كي يسلمه لأهله, لكنها رفضت بشدّة, وقامت بشراء أثاث جديد للمنزل بدل الأثاث القديم, عند ذلك لم يعد زوجها يتحمل تصرفاتها فانهار بجلطة أقعدته في المنزل, وأهمل زوجته كليّا, فراحت بدورها غير مبالية بوضع زوجها الصحي, تبحث عن موارد ماليّة جديدة من خلال توظيفها جزءاً من قيمة الذهب في مشروع محولة كهرباء مثلاً, شاركت بها سراً جارهم صاحب محل الأمبيرات, حيث اتفقت معه على شراء محولة من قبلها والربح مناصفة, ولكن المحولة تصيبها قذيفة فتتلف من مكوناته ما يقارب 40%, الأمر الذي دفعها للاتفاق مع صاحب الأمبيرات على بيعها وفك الشراكة.
وعند شراء الأثاث تعرفت على (ماهر) العامل في محل المفروشات, وهو رجل فاسد له علاقات مع ضباط وعساكر بالجيش ومنهم (المقدم أحمد) المسؤول عن حاجز (حي محطة بغداد), أوهمها بأنه هو صاحب محل المفروشات ويده طايلة وخاصة مع ضابط حاجز محطة بغداد فصدقته, واتفقا على فتح محل مفروشات آخر في حي المحطة تقوم هي بتمويله. وتم فتح المحل الجديد, وكان قد وعدها بأن يعرفها على (المقدم أحمد). بعد عدّة أيام من افتتاحه يأتي المقدم إلى المحل بالاتفاق مع (ماهر ونوال), بذريعة المباركة خاصة وأن “ماهر” أوهم المقدم أحمد بأن “نوال” مغرمة به, وعند دخوله والترحيب به يتذرع “ماهر” بأنه سيذهب لشراء علبة دخان, بعد خروجه يحاول “المقدم أحمد” التحرش بها فتجري بينهما مشادّة, وعند رفضها طلبه الخسيس, يقول لها لماذا تمانعين وماهر قال بأنك معجبة بي وترغبين بالمحظور. ونتيجة المشادّة بينهما يخرج أصحاب المحلات المجاورة من محلاتهم على ما جرى بينهما, وهنا يضطر المقدم ماهر للهروب غاضبا, وتترك “نوال” المحل بدورها وتقرر الانتقام من ماهر.
بعد عدّة أيام تأتي “نوال” إلى محل المفروشات, وتطلب من ماهر تصفية الحساب واسترداد أموالها, وتُقرعه على ما قاله للمقدم “أحمد” بحقها, فتجري بينهما مشادّة تصل إلى حد استخدام الوسائل الحادة, تحاول ضربه بسكين لكنه يمسك يدها ويلويها ليدخل جزء من السكين في خاصرتها اليسرى .. يهرب ماهر وهي يغمى عليها, يحملها جيران المحل إلى المشفى, وهناك بعد خروجها من المشفى مع ابنتها “سمر”, تتعرض لحادثة اغتيال من قبل سيارة عسكريّة يبدو (المقدم أحمد) كان وراء تدبيرها بغية قتلها للتغطية على جريمة ماهر التي كان هو السبب وراءها.
أثناء وجود سمر في المشفى مع أبيها لمتابعة وضع والدتها, يأتيها اتصال هاتفي يقول إن فادي حبيبها قد استشهد.
البنية الفكريّة للرواية.
لقد استطاع الروائي “باسل خليل” بما يمتلكه من ثقافة عالية, أن يغوص في عالم الأزمة السورية وتجلياتها السلبيّة في حلب خاصة, وما جرى في حلب برأيي لا يختلف إلا في الدرجة عما جرى في بقية المحافظات والمدن السورية من دمار وفساد وانتهاك لأعراض الناس وإسالة للدماء وسرقة وتعفيش لممتلكات الناس.
في رواية (لوحة تحت الرماد) تقف في الحقيقة أمام لوحة سرياليّة في دلالاتها, تجلت في تعدد ألوانها وخطوطها وظلالها وأبعادها الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة.
فمنذ بداية الرواية, تجد نفسك أمام عمل روائي يسعى إلى كشف عمق الفساد الذي حل داخل المجتمع السوري, من الفرد إلى الأسرة إلى بنية الدولة والمجتمع.
فـ “سليمان” كان أنموذجاً عن شريحة الانتليجنسيا التي ركب قسم كبير منهم صهوة الفساد, وكذا الحال عند عناصر أهم مؤسسة تحمي الوطن وتدافع عنه, كما هو الحال في شخصيّة المقدم “أحمد”, كما صور الروائي كيف تبلور الفساد عند السفلة والمنحطين أخلاقيّاً وسلوكيّاً ممن هم في القاع الاجتماعي, الذين أصبحوا يصولون ويجولون في الدولة والمجتمع كشخصيّة “ماهر”. أو عند أنموذج من الشخصيات المهزوزة في داخلها كشخصيّة “نوال” الزوجة التي ضاقت بها الحياة بعد تدمير جزء من منزل الأسرة, وتردي الوضع الاقتصادي, فانهارت قيمها مباشرة عند كشفهم الذهب في البيت المستأجر. ولكن في المقابل يسلط الروائي الضوء على شخصيّة “نبيل” الذي أراد من خلالها أن يقول لا بد من وجود الناس الخيرين الذين تمسكوا في مبادئهم الأخلاقيّة رغم قلتهم كي تستمر هذه الحياة من مبدأ لو خليت لقلبت.
كما أراد الروائي “باسل” أن يبين في الرواية أن الحب الصادق لا يستطيع أحد أن يلغي وجوده من حيث الجوهر, ولكن يمكن أن توضع أمامه معوقات كثيرة تحول دون السير به قدما, كما هي الحال في قصة الحب بين “سمر” و “فادي” حيث أدت الأزمة إلى مقتل “فادي” على خطوط التماس مع المعارضة.
كما سلط الروائي “باسل” الضوء أيضاً على ظاهرة الدمار المادي والروحي الذي دفع التاجر الذي سرقت ممتلكاته أن يبحث عن أي عمل شريف لتأمين لقمة العيش, كما جرى لوالد “ماهر” والفنان التشكيلي المبدع.
والأهم في هذه القضايا الفكريّة تأتي مسألة الهجرة والهروب من الوطن, بحثا عن الأمن والأمان, رغم كل المخاطر التي تعرض لها الكثير من المهاجرين, إن كان فقدانهم لحياتهم أو إذلالهم في دول المهجر, وهذا ما ساهم في غياب الشعور بالمسؤوليّة والانتماء اتجاه الوطن والمواطنة.
البنية الفنيّة للرواية:
البعد السيميائي أو الدلالي لعنوان الرواية:
يحمل عنوان الرواية دلالات عميقة وعديدة معا, وهذا يدل على عمق ثقافة الراوي “باسل خليل” الذي استطاع أن يختزل في رأيي مسألتين أساسيتين تعبران عن البنية الرواية في هذا العنوان, وهما:
الأولى: مباشرة, تتعلق باللوحة التي وجد خلفها الكنز.
والثانية: الدلالة المعنويّة أو المعرفيّة التي أراد الروائي أن يعبر عنها, إن كان فيما تركته هذه اللوحة من معاناة لأسرة “نبيل” من ضياع وانهيارات أخلاقيّة وجسديّة من جهة. أو التعبير أيضا عن الأزمة السورية بما حملته من مواقف رديئة من الناحية السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والقيميّة داخل بنية الدولة والمجتمع السوريين عموماً. وهذ ما أكده الروائي على لسان فادي مع حبيبته سمر قائلا عن الوطن: (الوطن لا يخسر أبداً إن كان هناك من يدافع عنه… فترد عليه سمر: أيّ وطن هذا وقد بات خراباً.. علينا ألا ننسى: طالما لم نغادره فكلنا مشاريع موتٍ مؤجلة..).
الأسلوب السردي في بنية رواية (لوحة تحت الرماد).
لقد امتاز أسلوب سرد الرواية بالاقتصاد والدقة ورهافة الأسلوب, وجماليّة اللغة وسهولتها وشفافيتها, ودقة توظيف العبارات والصور والبيان فيها. وهذا ما جنب الراوي الوقوع في السرد التقريري أو الإنشائي المجاني. لقد جعل “باسل خليل” من الرواية لوحات متتابعة, تمثلت في تعدد فصولها وفقرات كل فصل فيها, حيث جاءت مرسومة بألوان حيّة مجللة بأطياف من الحزن والأسى والفرح والسخرية معاً.
لقد صاغ الروائي “باسل الخليل” الكثير من مظاهر الأزمة السورية, وما عبرت عنه من ضياع وتخلف وجهل وفساد, وذلك في ضوء وإيقاع وزوايا تصوير, وحشد الكثير من الطقوس والوقائع الواقعيّة.
إن رواية (لوحة تحت الرماد) يَقْبِلُ المتلقي على قراءتها بحفاوة, ويعكف على تأملها وتقصي أبعادها بجديّة واهتمام. وهذا يعود إلى أن الروائي يؤمن بدور الأدب في الحياة وتأثيره في الأزمات حيث يقول الروائي على لسان “نبيل” لابنته “سمر” بعد أن أصيب بالشلل وسألته عن أهمية القراءة بالنسبة له وهو الرجل المثقف: (إن أهمية القراءة وانشغالي بالشخصيات والأحداث والأفكار, ينتشلني من سفاسف الأمور وتوافه (القيل والقال).. هذا الانشغال يبعد عني شبح الفناء والفراغ وبالتالي فقدان الأهمية..).
لقد تميز أسلوب الرواية وبناؤها بالإحكام والانسيابيّة والرصانة. كما صاغ الراوي روايته في سرد روائي طغت عليه اللهجة الشعبيّة (الحلبيّة) بكل بديعها, إضافة لاتكائه كثيرا على المثل الشعبي لإدراكه العميق بأهميّة المثل الشعبي في اختزال تجارب الإنسان في هذه الحياة. هذا وظلت اللغة العربية الفصحى التي يتقن التعامل معها بطريقة بسيطة وسهلة وواضحة, هي أساس السرد في الرواية, وهي اللغة التي استخدمها بمعرفة عالية في بنية السرد, وخاصة عندما يتدخل لربط حوادث الرواية مع بعضها ومنحها حالة الانسيابيّة والتكامل.
طريقة الأسلوب السردي الذي اعتمد الراوي عليه في الرواية؟.
ما ميز طريقة السرد في الرواية, هو مشاركة السارد للشخصيات, أو ما يسمى (الرؤية مع), حيث تكون فيها الشخصيّة هنا هي الساردة, من جهة, وهي تتشارك مع السارد – الروائي – أيضاً في تقديم أحوال الشخصيّة والأحداث من جهة ثانية. إن كثرة المواقف الحواريّة في الرواية جعلت الروائي يعطي لشخصياته حريّة واسعة في التعبير عن قناعاتها.. فالشخصيّة ليست جاهلة بما يعرفه الراوي عنها, ولا الراوي بجاهل عما تعرفه الشخصيّة عن نفسها.
ارتباط الحدث بالشخصيّة في بنية الرواية:
إن ارتباط الشخصيّة ببنية الحدث جاء ارتباطاً عضويًاً, وهذا الارتباط يدفعنا إلى القول: لا يمكن أن نتصور وجود شخصيّة في الرواية بدون حدث, ولا حدث دون شخصيّة, لأن الشخصيّة هي التي تصنع الحدث في الرواية, فهي القوة المولدة للأحداث تؤثر فيها وتتأثر بها. وأي خلل في بناء الشخصيّة والحدث معاً سيخل ببنية الرواية بالضرورة, ويحط من فنيتها التي لا يمكن أن تتحقق إلا بالترابط والانسجام بين الشخصيّة والحدث. لذلك وجدنا في رواية (لوحة تحت الرماد), ذاك الارتباط الوثيق بين كل شخصيّة من شخصياتها مع أحداث الرواية, ومع زمانها ومكانها, وبالرغم من أن كل شخصيّة منها, الرئيسة أو الثانويّة أو الهامشيّة لها دورها في صنع الحدث الخاص بها, إلا أن الراوي استطاع أن يشكل من كل هذه الشخصيات والأحداث التي قامت بها, بنية عامة للرواية تجعل المتلقي يعيشها وينشدّ لمتابعة تفاصيلها الحدثيّة, وكأنها حلقات مسلسل تلفزيوني مترابطة مع بعضها.
على العموم: لقد تميز تصوير الراوي لروايته بالحيويّة وتسارع الايقاع, وذلك بسبب نأي الراوي عن السرد التقريري والانشائي أو التسجيلي كما بينا في موقع سابق, فكان سرد الرواية سرداً يتدفق في سلاسة وانسيابيّة وبساطة.. سرداً حافلاً بمفردات من الصور والمواقف والحوارات يتوالى في إيقاعات منضبطة ورصينة, وفي توازن دقيق بين الواقع والخيال, وبين الفكر والعاطفة, وبين الحكي المألوف والتجريب المشروع ,وبين دوائر تتسع لهموم البشر الصغار والكبار معاً, ولهموم الإنسان في فضاء وجود اجتماعي متخلف, ولنقل لهموم وطن. ورغم بساطة أهل هذا الفضاء الاجتماعي, إلا أنه مشبع بالتناقضات وصراعات المصالح.
الشخصيّة في رواية (لوحة تحت الرماد) :
لا شك أن أهميّة الشخصيّة في أي رواية لا تقاس ولا تحدد بالمساحة التي تحتلها، وإنما بالدور الذي تقوم به، وما يرمز إليه هذا الدور، وأيضا مدى الأثر الذي تتركه في ضمير القارئ، مما يدفعه للتساؤل والمقارنة, تمهيدا لتصويب موقف في الواقع.
وتعتبر الشخصيّة ذلك الكائن الذي يبدعه المؤلف من الكلمات على الورق، فيعطيه اسمًا، وعنوانًا، وشكلاً ومضموناً. إنه (كائن موهوب بصفات بشريّة، وملتزم بأحداث بشريّة”).
نعم.. إن الرواية هي فن الشخصيّة، والشخصيات داخل الرواية تتخذ مكان الصدارة في الحدث الروائي, لأن الشخصيّة في الرواية “هي التي تكون واسطة العقد بين جميع المشكلات الأخرى، فهي التي تصنع اللغة، وهي التي تبث أو تستقبل الحوار، وهي التي تصنع المناجاة, وهي التي تصف معظم المناظر والوقائع التي تستهويها، وهي التي تنجز الحدث، وهي التي تنهض بدور تضريم الصراع أو تهدئته من خلال سلوكها وأهوائها وعواطفها، وهي التي تقع عليها المصائب… وهي التي تعمر أو تبني المكان وتشغل أو تملأ الزمان.
في رواية (لوحة تحت الرماد) نجد شخصياتٍ عديدةً ملأت فضاءاتِ الرواية بانفعالاتها وحواراتها وأفعالها وردود أفعالها مع محيطها المهني والعائلي والاجتماعي, فنمت بينهم مشاعر الصداقة والألفة والكراهية, وذلك كله بفضل ما يمارسونه ويتناقشون به ساعات لقائهم في محيطهم الاجتماعي من ألوان المصارحة والبوح والحوار, ومحاولة التعبير أو انتزاع قشور أجواء بيئيّة متخلفة أو مأزومة كما هو الحال في الأزمة السوريّة
إن لكل شخصيّة في رواية (لوحة تحت الرماد) همومها الخاصة, ولكنها بهذا الشكل أو ذاك تطمح للشروع بتحقيق التكامل والانسجام على المستوى الروحي والعقلي والجسدي مع الآخر, رغم أنها غالبا ما تفشل في تحقيق ذلك, ويتردى طموحها هذا إلى حالات من الفشل والاحباط بسبب ظروف الأزمة التي أحاطت بها .
طموح الرواية:
إن كل ما تطمح إليه رواية (لوحة تحت الرماد) هو تصوير ما حل بواقع الدولة والمجتمع السوريين من مآسي بسبب التخلف المزري الذي عاشه المواطن السوري تحت مظلة نظام شمولي استبدادي أدى إلى دمار شامل في البنية الماديّة والروحيّة داخل الدولة والمجتمع, وبالتالي تطمح الرواية إلى الخروج من كل مخلفات هذه الأزمة, من أجل بناء علاقة إنسانيّة أكثر عقلانيّة وإنسانيّة جديدة تتسم بالتوازن والسمو عن كل ما يسودها من كذب ورياء وأنانيّة, وتنطبق فيها الممارسة مع الفكر, ويتربع فيها الفكر العقلاني التنويري على عرش الضمير والقلب والعقل والسلوك.
كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.
d.owaid333d@gmail.com








