الكيل بمكيالين، أو ما يُعرف بـ ازدواجية المعايير (Dualität der Standards)، هو مفهوم سياسي صيغ بصيغته الحديثة منذ عام 1912م. ويشير إلى أيِّ منظومة من المبادئ أو الأسس التي تتضمَّن أحكامًا متباينة تُطبَّق على مجموعات مختلفة من الناس.
فما يُعدّ مقبولًا ومشروعًا لدى فئة ما، يُنظر إليه على أنه محظور وغير مقبول عند فئة أخرى. وهذه الازدواجية تمثّل نوعًا من التحيّز الذي يُولّد الظلم ويقوّض العدالة، لأنها تنتهك مبدأ أساسيًا في الفقه القانوني الحديث، وهو أن جميع الأطراف المشاركة في حدثٍ أو عمليةٍ ما، يجب أن تقف على قدم المساواة أمام القانون.
إنَّ الكيل بمكيالين يُعدّ أيضًا انتهاكًا صارخًا لمبدأ العدالة الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية المعروف بالحياد، القائم على ضرورة تطبيق المعايير ذاتها على الجميع دون تحيّز أو تمييز طبقي أو عرقي أو قومي أو ديني أو جنسي. فالتحيّز في أي من هذه الاتجاهات يُفضي إلى الظلم والإقصاء والإلغاء.
ومن هنا، فإن ازدواجية المعايير هي خرقٌ لهذا الأساس، إذ تُحاسَب فئات من الناس وفق معايير تختلف عن تلك التي تُطبَّق على غيرهم. وكثيرًا ما يُبرَّر هذا الخلل بالمقولة السائدة: “الحياة ليست عادلة”، وكأن الظلم قدر لا مفرّ منه.
انطلاقًا من هذا الفهم، تنشأ ازدواجية المواقف السياسية والأخلاقية، إذ تسارع الدول لنصرة المظلوم إذا وافق ذلك مصالحها، لكنها تغضّ الطرف أو حتى تنحاز إلى الظالم حين تتعارض العدالة مع مصلحتها الخاصة أو استراتيجيتها العامة. وهذا السلوك النفعي يتنافى مع أبسط القواعد الأخلاقية التي تقتضي نصرة الحق لذاته لا لمردوده السياسي.
من الناحية الأخلاقية، يمكن القول إنَّ من الخطأ أن يُدين المرءُ سلوكًا شائنًا لدى غيره فيما هو يرتكب ما هو أسوأ منه. كمن يدعو إلى محاربة الفساد وهو منغمس فيه حتى النخاع. وهنا ينبغي التمييز بين ازدواجية المعايير (Doppelmoral) والنفاق (Heuchelei)، إذ إن النفاق يقوم على ادّعاء مبدأ واحد ثم خرقه في الممارسة، بينما الازدواجية تعني وجود معيارين متناقضين يُطبَّقان تبعًا للمصلحة أو الانتماء.
في الغرب نفسه، حيث تُرفع شعارات العدالة والحرية، تُمارَس ازدواجية المعايير على نطاق واسع. ففي 25 نيسان/أبريل 2022، نشر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان (Euro-Med Human Rights Monitor) تقريرًا وثّق فيه السياسات التمييزية في أوروبا. وجاء فيه أن البرلمان الدنماركي أقرّ في كانون الثاني/يناير 2016 ما عُرف بـ قانون المجوهرات (Schmuckgesetz)، الذي يسمح للسلطات بمصادرة ممتلكات اللاجئين لتعويض تكاليف استقبالهم، في حين استُثني اللاجئون الأوكرانيون من هذا القانون! وهو ما وصفته ميكيلا بولييزي بأنه “ممارسة عنصرية مهينة تمثّل إهانة لجميع اللاجئين الآخرين”.
وهذا المثال، رغم أن الدنمارك من الدول التي لعبت دورًا محوريًا في إقرار الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان وتأسيس المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR)، يكشف بوضوح الهوة بين الخطاب والممارسة. كما أشارت منظمة العفو الدولية إلى استمرار الانتهاكات في ملفات العنف ضد المرأة (Gewalt gegen Frauen) وحقوق مجتمع الميم (LSBTTIQ) وغيرهم.
يرى علماء النفس الاجتماعي أن ازدواجية المعايير تنشأ عن خلل في منظومة القيم، إذ يحدث تناقضٌ بين ما يُعتقد وما يُمارس، بين الفكر والسلوك. وقد أصبحت هذه الظاهرة سمة بارزة في المجتمعات العربية، حتى غدت مألوفة إلى حدّ اللامبالاة. فالازدواجية الفكرية والأخلاقية تُنتج خللًا في العلاقات الإنسانية والاجتماعية والسياسية والدينية، وتُفضي إلى تآكل المنظومة القيمية برمّتها.
وهكذا نرى أن الازدواجية بمعنى الجمع بين الشيء ونقيضه هي مرضٌ اجتماعي خطير، وحالة انفصام في التحليل الذهني والسلوك العملي.
وأحد أهم أسباب تخلّف الإنسان العربي هو أنه يعيش هذه الازدواجية بوعيٍ أو دون وعي، حتى تغلغلت في تفاصيل حياته اليومية، فصار يفكّر بعقلٍ ويعيش بعقلٍ آخر. يتغنّى بالمبادئ في العلن، وينتهكها في الخفاء؛ يرفع شعارات العدالة والمساواة، لكنه يمارس القهر داخل بيته أو مؤسسته.
فترى الرجلَ الذي يدعو إلى تحرير المرأة ويدعم حقوقها، يَظلم أخته أو زوجته أو ابنته حين تتعارض حقوقها مع مصالحه. ويرفع شعار الديمقراطية، لكنه مستبدّ في بيته أو عمله. وهكذا تتكرّس حلقة مفرغة من القهر العمودي (من الأعلى إلى الأدنى) والتملق الأفقي (من الأدنى إلى الأعلى)، فيعيش المجتمع بأسره حالةً من الاستبداد المتبادل.
إن ازدواجية المعايير في مجتمعاتنا لم تعد استثناءً، بل باتت قاعدة يتعايش معها الناس دون إحساس بالذنب أو بوخز الضمير. فقد أصبحت الأخلاق والقيم والدين والحريات العامة أقنعةً تُرتدى عند الحاجة ثم تُخلع، وأداةً للهيمنة لا للتحرّر.
إن تطور الفكر الإنساني لا يقوم إلا على التراكم الحضاري والنقد الذاتي، وعلى تجاوز الماضويات لا استنساخها. فحين تتسرب الانتقائية (Eklektivität) إلى التشريعات والثقافة والسياسة، تُفقد العدالة معناها، ويتحوّل المجتمع إلى كيان منقسم على ذاته.
لقد أصبحنا نعيش ما يمكن تسميته بـ الانتقائية في التاريخ والجغرافيا (Eklektizismus in Geschichte und Geographie)؛ نختار من الماضي ما يخدم مصالحنا، ونغفل ما يدعونا إلى المراجعة والتصحيح. فنلقي باللوم على الحاضر متناسين أن الماضي نفسه كان مأزوماً ومليئاً بالتناقضات.
لقد علّمتنا الأمم المتقدمة أن الإصلاح يبدأ من مواجهة الذات لا من تبرير أخطائها. وقد كان لفلاسفتنا ومفكرينا العرب، كـ ابن رشد، دور ريادي في إرساء قيم العقلانية والنقد التي ألهمت أوروبا طريقها إلى التنوير. غير أن مجتمعاتنا اليوم ابتعدت عن هذا الإرث، واستبدلت التفكير النقدي بالتبرير الانتقائي، فخسرت روحها الحضارية.
وفي الختام، فإن الخروج من هذا المأزق لا يكون إلا عبر رؤية فكرية ناضجة ومشتركة تحسم التناقض المفتعل بين الهويات الكبرى والهويات الفرعية، وتؤسّس لإيمانٍ ديني معتدل ووطنية جامعة تُعلي من شأن المواطنة والمساواة أمام القانون، دون تمييز أو انتقائية أو ازدواجية في المعايير.
حينها فقط يمكن أن نستعيد إنسانيتنا المهدورة، ونبني مجتمعاتٍ عربيةً عادلة، لا تُقاس فيها القيم بمكيالين.








